الأماكن المتخيّلة ملاذات الروائيين الآمنة

كتّاب نجحوا في جمع تفاصيل المدن لبناء مدينة أبعد من الواقع والخيال.
الاثنين 2019/11/18
الأمكنة لها دلالاتها (لوحة للفنانة هيلدا حياري)

المكان مكوّن أساسي في كل عمل سردي، قد يحتل مرتبة البطولة في روايات كثيرة كانت الأمكنة محورها، ومحرّك أحداثها، لكن لملاحظ أن يقر بانتشار الأمكنة المتخيلة في المنجز السردي بشكل لافت مؤخرا، وربما يعود هذا إلى العولمة ومحاولة كتابة نصوص عامة، تنطبق على كل الأمكنة.

يبتدع الروائيّون أمكنتهم الروائيّة المتخيّلة، يفسحون المجال لخيالهم بأن يجنّح في فضاء الرواية كي يبتكر مدناً جديدة، تحمل بصمتهم الخاصة، وتتأثّث بتفاصيل متخيّلة من عوالمهم الروائيّة، استناداً إلى قوّة الخلق والابتكار والتجديد.

هل يمكن توصيف الأمكنة التي يختلقها الروائيّون بأنّها عبارة عن ملاذات آمنة يلجأون إليها لتحميلها رسائلهم المفترضة إلى الآخرين؟ هل توفّر التسمية – أو اللاتحديد – فرصة للتملّص من المساءلة؟ وهل يمكن القول إنّها نافذة للانطلاق نحو عوالم أرحب؟ إلى أي درجة ينجح الروائيّ في إخفاء آثار المدن التي تؤثّر في حياته وترسم معالم شخصيّته في عمله؟

منطق غريب

المدينة المتخيّلة جذبت اهتمام الأيرلندي كيفن باري الذي لجأ في روايته “مدينة بوهاين” التي تدور أحداثها في المستقبل المتخيل بعد بضعة عقود مفترضة، إلى اختلاق مدينة بوهاين المتخيلة التي يصفها بأنّها آيلة إلى السقوط بفعل ارتكاب المعاصي وتفشي الرذيلة والانقسام القبلي والعائلي.

ولعلّ لجوءه إلى إخفاء هويّة المدينة، أو إسباغ هويّة غير موجودة عليها، يمكن أن يندرج في سياق التعميم الذي يمكن أن ينطبق على هذه المدينة أو تلك، وقد يمكن إجراده في إطار التعمية، حين يوصف بأنّه تهرّب، عبر التورية، من التحديد كي يبقي نفسه بعيداً عن أيّة مقاربة أو مواجهة.

يصوّر باري المدينة المختلقة التي تكاد تكون نموذجاً حاضراً في الشرق والغرب، على أنها مكان مريع في سواد الليل الحالك، وعالم من الكوابيس في الجهة الأخرى من جسر المشاة، وفي الشوارع الهزيلة تميل بيوت المدينة القديمة الواحد نحو الآخر حتى يخيّل للمرء أنها تسأل كيف حاله الآن، وكأن المنازل القديمة يسند أحدها الآخر فيمنعه من الانهيار.

المكان المتخيّل يبقى مثيرا للروائيين، ونقطة تحدّ لخيالهم، يجدون أنفسهم أمام فراغ يقومون بهندسة تفاصيله بتخييلهم

يقول راويه إن متاعبنا كلها مصدرها ذاك النهر، لا خلاف في ذلك، الفساد الذي يلوث هواء المدينة فساد يتصاعد من ذلك النهر. يتحدث عن نهر بوهاين، مياهه سوداء خبيثة تتدفق هادرة من أراضي بيغ نوثين القفراء القاحلة، انبثقت عنها المدينة وحملت اسمها مدينة بوهاين.

وتراه يحيل إلى تأثير الطقس على أبناء المدينة، حيث هناك كآبة وبؤس ورياح هوجاء تعصف بالأمكنة، ولم يحدث أن أُخبر أحد عن العيش في الأماكن التي تعصف بها الرياح، وأنه عندما تعصف الرياح بشراسة في بيغ نوثين، لا يكون تأثيرها مادياً فحسب، ولكن فلسفياً أيضاً.

ويؤكد أنه يصعب على المرء السيطرة على وعيه في خضم رياح كتلك، وتخرج هبات الرياح المستمرة العقل عن مسار تفكيره، والنتيجة ناس متوتّرون ومزاجيون يميلون إلى منطق غريب. ويؤكد أنه هكذا كان ولا يزال سكان نورث سايد رايزس. كما يؤكد أن الإحساس يستقر في أعماق المكان، وتسيطر أجواء غريبة عليه عندما يشتعل فتيل العداء القصير.

يذكر أن بعض سكان المدينة يبدأون بالتخمين أنه ثمة اضطرابا شتويا يتحضر، وأن هناك دماء ستسفك قريباً، ويدركون احتمال ألّا يكون الهدوء المديد في مصلحة المدينة، وأنه يجب ألا يقاوم أيّ مكان طبيعته لوقت طويل. وترى أحد أبطاله غير مكترث لتحذير آخر له بأن للناس ذاكرة مديدة في بوهاين، إن تأذّى بطلهم.

قد تكون بوهاين نسخة عن دبلن أو بلفاست أو لندن أو أدنبرة أو كارديف، أو أية مدينة أخرى، سواء في بريطانيا أو في مكان آخر، ويكون اللاتحديد عابراً للحدود، ومبتكراً خرائطه الخاصّة به.

سرّيّة وتمويه

الرجل ذو القبعة(لوحة أنطونيو سيجوي)
الرجل ذو القبعة (لوحة أنطونيو سيجوي)

وفي رواية أخرى، بعيدة عن عوالم رواية باري، يكون المكان المختلق ملاذ الروائيّة شيترا بانيرجي ديفاكاروني الآمن للراحة، والهرب من ضغوطات الحياة المعاصرة، بحيث يختصّ بأصناف التوابل، ليكون عالماً بذاته، وذلك في روايتها “عاشقة التوابل” التي تتمحور حول الشغف بالتوابل، حيث البطلة الشابة تيلو تعرف أصولها وألوانها وتميز روائحها، وتفك أسرار حياتها من خلال التوابل ورائحتها وتأثيراتها.

المكان المتخيّل؛ الجزيرة المفترضة لتدريب عاشقات التوابل يحظى بأهمية لافتة، حيث تفلسف ديفاكاروني آلية التعاطي مع التوابل وتحضيرها، وأن اليد المثالية لا تتأتى بسهولة لكثير من النساء، وهناك كفاءات مطلوبة للاتي ينجحن في اختبارات الأم الكبرى على الجزيرة المفترضة.

ومن الجزيرة المتخيّلة إلى المتجر المبني في عالم لاحق من التخييل، تتحدث عن مكان يسمى بازار التوابل، وتصفه بأنه لا يشبه أي مكان آخر في هذا العالم، وعلى الرغم من أنه مفتوح حديثاً إلا أن الكثيرين يعتقدون أنه موجود منذ زمن طويل، وتنوه إلى أنها تعرف السبب، وتقول إنها تبدو وكأنها قد قضت عمراً في إدارة المتجر، بهيئتها العجوز، وتذكر أنهم لا يدركون أنها ليست عجوزاً وأن جسدها الذي تسكن فيه ليس لها، فقد سكنته بعد أن أدت طقوساً مقدسة حول نيران الشمباتي، وهو طائر أسطوري، كانت قد أخذت عهداً على نفسها حين أصبحت عاشقة التوابل أن تتفاعل مع تجاعيد جسدها وحدبته كتفاعل المياه مع التموجات التي تشكلها.

تلفت ديفاكاروني إلى أنّ المكان يعلّم على السرّية، ويقوم بالتمويه على مواقع الأحداث، حيث تحمل الأسرار التي علمتها إياها الأم الكبرى على الجزيرة المفترضة، وتأكيدها لها ولغيرها أثناء التدريب، أنه لا قيمة لهن، وأن ما يهم هو المتجر والتوابل فقط، وتحكي أن المتجر بالنسبة للذين لا يعلمون شيئاً عن غرفه الداخلية والسرية برفوفه المليئة ببعض التوابل المقدسة والنادرة، ليس سوى رحلة قصيرة أو انغماس في الملذات، وتلفت إلى أن هذا ما يشكل خطورة على أصحاب البشرة السمراء القادمين من أماكن أخرى والذين يتعجب سكان أميركا الأصليين من سبب قدومهم.

تمكن الإشارة إلى أنّ المكان المتخيّل يبقى مثيراً للروائيّين، ونقطة تحدّ لخيالهم، يجدون أنفسهم أمام فراغ يقومون بهندسة تفاصيله بتخييلهم، ومطابقته مع كثير من الأمكنة، بحيث يستلهم تفاصيلها من دون أن يتطابق مع أيّ منها، يكتسب فرادته وخصوصيته وتمايزه من خلال التمويه الذي يفتح المجال للتخمينات والتأويلات، ويوسّع حدود العمل والتأثير عبر تحريض البحث عن التماثل ونقاط الاشتراك والاختلاف مع أماكن واقعية هنا وهناك.

14