الأمازيغ في مصر بين متلازمتي الانفتاح وتلاشي الخصوصيات

على بعد مئات الكيلومترات من قلب العاصمة المصرية القاهرة، يعيش نحو 55 ألف أمازيغي حياة الغيتو، يتمسكون بعادات وتقاليد خاصة قبل أن تقلب التغيرات المجتمعية المتسارعة في بوصلة السياحة حياتهم، وتزيد روابطهم بسكان العاصمة ومحافظات أخرى، وتصبح إشكاليتهم الرئيسية كيف يندمجون دون أن يذوبوا أو يتلاشوا.
سيوة (مصر) – عادة ما تُفاجئ حقيقة وجود أمازيغ في مصر من تطأ قدماه واحة سيوة في الصحراء الغربية، على بعد نحو 50 كيلومترا من الحدود الليبية للمرة الأولى، ذلك لأن هذا التواجد غير ذائع الصيت ومحدود التأثير بفعل انزوائهم على بعد مئات الكيلومترات عن القاهرة وتجنبهم إثارة أزمات عرقية.
يحدث بمجرد أن يبدأ أمازيغيان في التحدث إلى بعضهما بلغة غريبة غير مفهومة، أن يُطرح السؤال عن ماهية تلك اللغة، ويبدأ الأمازيغي في ممارسة هواية دققناها فيهم وهي الشرح بزهو، اللغة هي الأمازيغية.
يجيب الدليل السيوي جمال الريان على وفد سياحي جاء من القاهرة لقضاء عدة أيام في الواحة، لكن الإجابة لا تبدو شافية للمسافرين ممن ينتظرون الاستدلال على غرفهم للراحة من عناء طريق طويل غير ممهد استغرق أكثر من 10 ساعات.
يبادر بتعجب أحد المسافرين، وهو طبيب عظام ( 60 عاما): وهل ثمة أمازيغ في مصر؟ فيرد الريان: نعم في واحة سيوة فقط، وعددنا نحو 55 ألف نسمة حاليا. يستفسر آخر: تعني أنكم بدو؟ فينفي الريان: لا.. البدو عرب، ونحن لسنا عربا، نحن أمازيغ.
الأمازيغ هم عرق يقطن شمال أفريقيا وتتمركز غالبيتهم في المغرب والجزائر وليبيا وتونس. ويمثل أمازيغ سيوة مزيجا خاصا، فهم يعتزون بانتمائهم لمصر ويتحدثون العربية بطلاقة، لكنهم يظلون قابضين على انتمائهم العرقي كالجمر.
يسري نظام التحكيم العرفي لدى الأمازيغ في مجلس يترأسه شيخ القبيلة ويشارك في عضويته 10 آخرون يمثلون وجهاء القبيلة وكبارها
وتضم واحة سيوة في صحراء مصر الغربية 12 قبيلة كلها من الأمازيغ عدا واحدة عربية تتمركز بالقرب من ليبيا، وعدد أفرادها نحو 3 آلاف.
اعتاد الأمازيغ إبداء الترحاب اللازم للوافدين، حتى أن الأطفال يبادرون بالابتسامة وإرسال السلام والقبل بمجرد أن تمر أمامهم حافلة سياحية أو غرباء مترجلون.
ولا يعكس هذا الانفتاح حقيقة المجتمع الأمازيغي في مصر، فهو مجتمع متماسك ومنغلق وله خصوصيات عدة، حتى وهو يشهد تغيرات منذ عدة أعوام صاحبت تزايد الوافدين واستقرار نحو 12 ألفا منهم في الواحة للاستثمار والعمل.
وتقف اللغة دون ذوبان الأمازيغ في المجتمع بشكل كامل، فيبدأ الطفل في تعلم اللغة الأمازيغية ويتقنها قبل العربية، ويُرجئ لقاؤه بالأخيرة حتى التحاقه بالمدرسة. وبسبب أن انتشار التعليم في الواحة كان محدودا من قبل، فثمة كهول لا يعرفون من العربية سوى القليل.
كما تترك اللغة الأمازيغية انطباعا لدى الغرباء بتماسك مجتمع الأمازيغ وصلابته على نحو يصعب اختراقه، وتعزز لديهم الشعور بالغربة عندما تثار عمدا للمكايدة.
يحكي محمد (13 عاما) عن زميله عمرو الذي استقر مع والده في سيوة، قادما من سوهاج، وهي إحدى محافظات جنوب مصر، ولا يجيد الحديث باللغة الأمازيغية، فيحرص أقرانه في الفصل على التواصل بها عمدا لإثارة غضبه واستدعاء ضحكاتهم.
ويساور كبار المشايخ في الواحة القلق على متانة اللسان الأمازيغي في المستقبل، فيخشون أن ينكمش نطقها تدريجيا مع انفتاح الواحة وكثرة المتحدثين بالعربية، فضلا عن التغيير الأبرز في المصاهرة.
تهجين الأقلية
رفضت فتاة جامعية ضمن قلة قليلة ممن تخطين العادات في المنظومة القبلية حتى وصلن إلى الجامعة، الزواج من أمازيغي دون مستواها التعليمي، وهو لم يكن الوحيد، بل سبقه كثر.
أثار الرفض المتكرر للفتاة الغضب بين رجال قبيلتها، وكادت أزمة كبيرة تندلع لولا تدخل الحكماء، وإدراك مشايخ القبائل ضرورة الرضوخ ولو نسبيا لتغيرات الزمن والتمتع بقدر من المرونة في التعامل مع الضغوط.
نموذج الفتاة المتحررة من قيود المجتمع السيوي ليس القاعدة، فالغالب أن تُحبس المرأة داخل المنزل، بحيث تصبح رؤية إحداهن منفردة تسير في شوارع الواحة حدثا، حتى وهنّ لا يخرجن سوى ملتحفات بطبقات من الثياب، ولا يسمح للمتزوجات منهن بالعمل، وتقتصر أعمالهن على المداومة في مصانع التمر أو العمل في منازلهن لرسم الحناء وتوضيب السائحات.
ومرور واقعة الرفض بل وأخذ رأي الفتاة الأمازيغية عند تقدم أحد لخطبتها، طفرة تعود إلى نحو 6 أعوام، كأحد تأثرات الواحة بثورة 25 يناير 2011.
وكانت السياحة في سيوة تقتصر على الأجانب والعرب من دول الخليج، ويرفض أصحاب الفنادق استقبال المصريين تفضيلاَ للعملة الأجنبية، قبل أن تنقلب الأحوال بانهيار السياحة بعد الثورة، ويبدأ الترويج للواحة في رحلات السياحة الداخلية.
وعندما توافد عدد كبير من سكان القاهرة على الواحة التفتوا إلى فرص العيش والاستثمار، واستقرت أعداد كبيرة فيها، ومهدوا الطريق لأبرز تحول تشهده الواحة في القبول بزواج الفتاة الأمازيغية من خارج قبيلتها.
ويستشهد الدليل السيوي جمال الريان بذلك التغير على أن مجتمعهم يشهد تغيرات جذرية نحو الحداثة، ويشير أيضا إلى التحاق بضع فتيات في الواحة بالجامعة، ليقاطعه المرشد السياحي السعيد إسماعيل، وهو يزور سيوة للمرة الأولى وفوجئ بالأوضاع فيها، “قد تتغير لكن ببطء شديد.. ما هو طبيعي في القاهرة قد يصبح مقبولا عندكم بعد 40 عاما أخرى”.
وعلى عكس الدليل السيوي، لا يرى رجل الأعمال ومدير فندق “دريم لودج” جمال يوسف تلك النقلة كمغازلة للحداثة، لكنه يشرحها كعلاج اضطراري مع ارتفاع معدلات الفتيات في الواحة بنسبة 4 إلى 1 بالمئة “ما دفعنا لقبول ذلك، لمواجهة العنوسة”.
وشائع زواج السيوي من أكثر من امرأة، لكن الأمر تحكمه عادات كثيرة، أولها المساواة بينهن في المهور، حتى إذا تطلب ذلك إعادة دفع مهر جديد للزوجة الأولى.
وفي ظل ارتفاع المهور وتأرجح غالبية سكان سيوة بين الفقر والمستوى المعيشي المتوسط، لم يفلح مخرج زواج الرجل السيوي بأكثر
من واحدة للحفاظ على المجتمع دون تهجين. وتكمن خطورة تهجين الأسرة الأمازيغية في انعكاسها على الهوية، فيخشى الأمازيغ تأثيراتها السلبية بداية من اللغة وحتى الرضوخ إلى الأحكام والعادات الأمازيغية، خصوصا إذا كان الزوج أمازيغيا والزوجة من خارجها، وقتها لن تصبح اللغة الواحدة هي السائدة داخل المنزل، وسينشأ الطفل أمازيغي العرق عربي اللسان.
ويراهن رجال الأعمال الأمازيغ على حفظ هويتهم رغم الانفتاح، معولين على الانتماء المغروس في نفوسهم منذ الطفولة.
ويعتبر يوسف أن شعور الانتماء الراسخ في نفوس الأمازيغ هو الحصانة، قائلا “هذا الانتماء يجعل الأمازيغي يعود دائما لأرضه رغم صولاته وجولاته للتعلم أو العمل، ولذلك لا ترفض السفارات منح تأشيراتها للأمازيغي، فهي تعلم أننا لا نهجر أرضنا”.
أحكام القبيلة
يؤكد يوسف على أصالة المجتمع الأمازيغي بحفاظه على قيمه حتى الآن، رغم أن البيئة وتغيرها قد نالا من قيم وتقاليد قوميات أخرى.
ويسمي يوسف صفة “الأمانة” كعنوان رئيسي لأقليتهم، واصفا خيانة الأمانة والسرقة بالكبائر، لافتا لصحيفة “العرب” إلى واقعة مراهق سرق من سائح في فندقه قبل نحو 6 أعوام بعض أغراضه، فناله عقاب بدني شديد حتى توسط السائح المسروق للعفو عنه، لكن القبيلة لا تعفو في حقها، وحكم شيخ القبيلة على هذا الشاب بألا تطأ قدماه 4 شوارع رئيسية في الواحة طيلة حياته. وشب المراهق والعار يلاحقه، لا يستطيع أن يكسر عقابه، نسي أقرانه فيما ظل هو متذكرا عقابه، فيستأذنهم في المغادرة كلما أقبلوا على المشي في أي من شوارعه المحرمة، ومن ضمنها شارع جبل الدكرور الذي يشهد عيدا أمازيغيا يسمى “عيد الصلح” في أكتوبر من كل عام.
ويقول يوسف “في العيد الأخير، ترجاني أصدقاؤه للعفو عنه وطلب العفو من شيخ القبيلة، كي يتمكن من مواصلة حياته على نحو طبيعي، بعدما ردعه العقاب، وبات بشهادة الجميع محل ثقة واعتدال”.
ويترك التجار بضائعهم معلقة في الشوارع ومرصوصة على الطرقات خلال فترة القيلولة التي يعود فيها السكان إلى منازلهم لتناول وجبة الغداء، دون أن يخشى أحدهم من السرقة، في ظاهرة غريبة ولافتة.
وتحيل واقعة السرقة والحكم الرادع للقبيلة إلى سمة أساسية لأقلية الأمازيغ، وهي التحكيم العرفي، وهو نظام يُتبع بتغيرات طفيفة في المجتمعات القبلية، من سيناء شمال شرق القاهرة حتى حلايب وشلاتين جنوبا.
ويسري نظام التحكيم العرفي لدى الأقلية الأمازيغية في مجلس يترأسه شيخ القبيلة (منصب رسمي ويأخذ صاحبه راتبا من الدولة) ويشارك في عضويته 10 آخرون يمثلون وجهاء القبيلة وكبارها، يتداولون في ما بينهم للبت في أي مشكلة تخص القبيلة نفسها، ويصدرون الحكم الغير قابل للمراجعة.
وفي حال تداخل أكثر من قبيلة في المشكلة لا يحق لمجلس واحد البت فيها، بل تجتمع تلك المجالس بمشايخها لدى أحدهم أو في أرض محايدة لنظر الأمر، ولم تُسجل واقعة في الواحة فشل فيها التحكيم العرفي.
ويشير الدليل السيوي جمال الريان إلى أن التحكيم العرفي لا يتعارض مع القانون، موضحا أنه يدور في فلك ضبط السلم المجتمعي، أما ما عداه من أفعال كالقتل، فهي متروكة إلى أجهزة الدولة تأخذ مجراها، ويتابع “لكنها من النوادر”.
وعادة ما يسري قانون الواحة على الوافدين أيضا، يردد الأهالي ذكر واقعة خروج سيوي على قاهري مستقر في الواحة ليلا في حالة هيجان ليصيبه بقطع في يده.
فكر الثاني في الذهاب إلى قسم الشرطة، لكن المحيطين به نصحوه بعرض الواقعة على شيخ القبيلة، فحكم الأخير سريعا بتعويض قدره ألفي جنيه (نحو 150 دولارا).
عادات معيشية
للأمازيغ عادات خاصة في الملبس والمأكل صبغتها تكويناتهم الصحراوية وقربهم من الأراضي الليبية، فهم يرتدون الجلباب كزي رسمي لا يُخلع سوى في المدارس للطلاب، وكافة الأعمال الأخرى بما في ذلك المصانع والبنوك.
والعائلة الأمازيغية كبيرة نسبيا، بمتوسط 6 أفراد، غير معنية بتنظيم النسل، فهي تعتبر أن التناسل في صالح الأقلية، وتتباهى بالزيادة العددية في الواحة.
وتقبل الفتيات والشباب على المدارس الأساسية، كي يتمكنوا من تعلم القراءة والكتابة، وكلما تقدمت المرحلة تقل فرص الفتيات لاستكمال تعليمهن.
وللمعمار الأمازيغي نسق خاص، لكنه آخذ في الاندثار لصالح المباني الأسمنتية التقليدية، ومعمارهم يعتمد أحجارا خاصة تعد بخليط من مواد عديدة، بحيث تحافظ على رطوبة المنزل في الصيف الشديد الحرارة في الواحة، وتوفر الدفء في الشتاء القارس.
ويلفت أحد العاملين في المعمار بالواحة، واسمه أحمد إبراهيم، إلى أن غالبية أهالي الواحة لم يعد في مقدرتهم المادية البناء على الطريقة التراثية، فيشيدون البيوت الجديدة بالطوب الطفلي توفيرا للنفقات.
وتتسم بيوت الأمازيغ بالانخفاض الملحوظ، ربما يرتبط ذلك بقصر القامة وهي من سماتهم الجسمانية المتوارثة، حتى أن أقدم مبنى في الواحة، وهو قلعة “شالي”، مبني على نفس الهيئة المنخفضة.
وتختصر قلعة شالي واحة سيوة التراثية، تضم بقاياها مجموعة من الغرف، مؤرخة بالقرن الثاني عشر الميلادي، وتعني كلمة شالي الأمازيغية “وطني”.
واحتضنت القلعة في الماضي كافة سكان الواحة مقسمين إلى شرقيين وغربيين بينهم معارك، حتى زالت وتم الصلح، وهي مناسبة يتم إحياؤها كل عام، “عيد الصلح”، باشتراك الواحة كلها في وجبات الطعام في ساحة واسعة على مدار 3 أيام.
وتنتشر البازارات السياحية في محيط القلعة، وتعرض المنسوجات اليدوية التي تنسجها نساء الواحة وفتياتها، كما تعرض الملابس التراثية للفتاة البدوية، ومن ضمنها زي العُرس.
يكاد يندثر الزي التقليدي للفتاة الأمازيغية في عرسها، وهو جلباب مزركش يزن نحو 5 كيلوغرامات أو أكثر، لصالح فستان الزفاف الأبيض، في تغير آخر بفعل انفتاح الواحة.
أما الاحتفالات في الزفاف أو غيره من الأعياد، فتدور في فلك ذبح الخراف وإعداد الطعام وجلسات السمر والغناء على موسيقى أغاني أمازيغية خاصة.
ويشتهر الأمازيغ بمأكولات مطهوة بالبخار تسمى “المردم”، ويقوم الطاهي أو ربة المنزل بدفن الطعام بعد إحكامه في إناء، وإشعال الحطب وخشب النخيل وأشجار الزيتون، وبعد مدة معينة تتم إزالة الحطب والرمال وإخراج الطعام إلى المائدة.
وعلى الرغم من انتشارد التلفزيونات وأطباق التقاط البث في الواحة، إلا أنها لا تشغل الأمازيغ كثيرا، فمازالت الواحة محتفظة بتقديرها للتواصل الحي وجلسات السمر.
