"الألباتروس" ملحمة التوق إلى ما هو أبعد من الحرية

الكثير من الأعمال الفنية التونسية والمغاربية عموما تناولت ظاهرة الهجرة غير النظامية، تلك التي خلفت مآسي مازال صدى دموعها يملأ ضفاف البحر المتوسط الجنوبية. تراجيديات كثيرة تناولتها الدراما والسينما والفن التشكيلي وحتى الروايات والقصائد، وهو ما يطرح تحديا أمام عمل مسرحي يريد معالجة هذه الظاهرة. فكيف كان تعامل المسرحي التونسي شادلي العرفاوي في تناوله لمسألة الهجرة في عمله الجديد؟
الممثل والمخرج التونسي شادلي العرفاوي، واحد من الجيل المسرحي الذي تخرج وبدأ العمل أواخر التسعينات أي في مرحلة الألق الإبداعي التونسي، حين كان الفن الرابع يقدم سجالات ومطارحات ذهنية وجمالية تغني المشهد وتغري بخوض المغامرة الإبداعية.
الآن، وقد خبت تلك الجذوات أو تكاد، لا يزال العرفاوي -مؤسس مهرجان المسرح الحر الذي حمل اسم رفيقه الفقيد عبدالوهاب الجملي- واحدا من القلائل الذين يستمرون في محاورة تلك الأسئلة الحارقة بمنتهى الحماسة والجدية ومتعة اللعب أيضا، اعتقادا منه أن المسرح فن ينتعش في الأزمات، حتى وإن كانت هذه الأزمات تهدد كينونته ووجوده.
ذاكرة من مراكب
مسرحية ”الألباتروس” التي حملت توقيع شادلي العرفاوي، تأليفا وإخراجا في الدورة الأخيرة لأيام قرطاج المسرحية، تأتي ضمن مشروع ”أكاديميا” التونسي – الإيطالي، وهي إنتاج مُشترك بين مسرح الأوبرا بتونس ومسرح كاتانيا بإيطاليا.
هي عمل تم إنجازه في إطار شراكة بين ضفتي المتوسط، لكن مقترحاته الفنية وأطروحاته الذهنية لم تكن متوقعة أمام جمهور تابع بشغف، وعلى ما يزيد عن ساعة، قصيدة مسرحية آسرة تخبّر عن قوارب الموت ورحلة البحث عن المفقود فيما حصل فعلا، وفيما غاب وسهت عنه السرديات المألوفة.
الهجرة السرية نحو الضفة الأخرى على متن المراكب المتهالكة، هي موضوع المسرحية الذي يبدو في السنوات الأخيرة مطروقا ومكررا في الأعمال الدرامية الأخرى كالسينما والتلفزيون، لكنه ليس كذلك في مسرحية “الألباتروس” التي بدت موغلة في الملحمية المشهدية والشعرية عبر ما يطرزها من أداء تمثيلي وحركي وتشكيلي وصل حد الإدهاش.
لا غرابة في ذلك حين نقف عند أداء تصدى له فريق تمثيلي وفني مزج فنونا بصرية متنوعة في عمل تنطلق حرارته من الراهن والمعاش دون تلك الكليشيهات التي أصبحت الآن مُلاكة وممجوجة ولا تضيف شيئا للأفلام التسجيلية والتقارير الصحفية.
مع “الألباتروس” نكتشف أن الهجرة لم تعد سرية، ولا إلى اليابسة في شمال المتوسط، ولا عبر ما أتلف وتهالك من مراكب بل هي هجرة منك إليك، وفي البحر إلى البحر نحو جنوب الروح وشمال الجسد.
وكالنوارس التي تبني أعشاشها في المراكب كي تتخلص من لعنة الانتماء، تمضي الحكاية عبر ذاكرة من مراكب ورقية “شايلة الحكاية” كما يقول عبدالرحمن الأبنودي في أغنيته.
الهجرة السرية لم تعد سرية بعد 14 يناير 2011 في تونس. وهي مفارقة صارخة تلخص مفهوما غريبا يتجلى في جوهر الحرية التي ينشدها شباب تونس وأفارقة جنوب الصحراء، وهل هي الحرية في الموت بمنتهى الحرية كما تدل عليها مفرداتها ورمزياتها كالمركب والشراع والبحر والنورس والتحليق؟
الجثث التي لفظها المتوسط تستعيد أرواحها في مسرحية شادلي العرفاوي، تعيد تحريك ألسنتها وأطرافها، وحتى عقارب الساعة كي تروي، وفي تراجيديا تقترب من الإغريق، ملحمة التوق إلى ما هو أبعد من الحرية، وهي الكرامة الإنسانية التي سُفحت في “الهنا” واحتقرت في “الهناك” وضاق بها الشرق ورفضها الغرب.
المشهد الافتتاحي للمسرحية يذكر بصورة الطفل السوري الغريق الذي ضجت به الكرة الأرضية، منذ سنوات، حين لفظت الأمواج جسده الملائكي الصغير.. والمفارقة أن اسمه “آلان” يعني باللغة الكردية “حامل راية النصر”.
ثنائية الآن وهنا
الملحمية التي ميزت هذا العمل المسرحي جندت لنفسها وحشدت كل الأساليب التعبيرية إلى درجة أنها استعارت الميكروفون الإذاعي، زيادة في التوضيح والتبليغ، كما أنها قد زاوجت بين جماليات سينمائية وكوريغرافية ومنبرية شعرية دون نشاز، ولا لمجرد القول بأنها تجاري العصر وتقنياته بل تجنبت الإقحام الفج وتميزت بالسلاسة والعفوية.
زاد من جماليات هذا العرض أداء تمثيلي أخاذ حافظ على دفئه وعفويته مع الفنانة الكبيرة والمتواضعة فاطمة بن سعيدان، التي يمثل حضورها الركحي نوعا من السحر الذي لا يتوقف عن الإدهاش، ورافقها الممثل الشاعر عبدالقادر بن سعيد، في أداء بارع وحساس، بالإضافة إلى جماليات تمثيلية خفيفة الروح من علي بن سعيد ومريم بن حميدة وملاك الزوادي.
العرفاوي استطاع أن يمسك بأطراف الحكاية وفق كتابة دراماتورجية بعيدة عن الاستعراض والإقحام ومنسجمة مع مخطط إخراجي لا ينفصل عن السينوغرافيا التي خرجت من رحم النص المكتوب، ولم تأت على شكل زوائد ركحية منفصلة كما هو الحال في باقي عروض المخرجين الشبان، لكن شادلي بدا هذه المرة مخضرما وعارفا لما يريد قوله.
تحيلنا مسرحية “الألباتروس” إلى فكرة جوهرية مفادها أن العمل المسرحي المبني على ثنائية الآن وهنا لا يكفيه مجاراة ما يحدث للقول بأنه مازال حيا يرزق، ولا الركون إلى العناصر الأساسية التقليدية في بناء جمالياته وصناعة خصوصياته بل هو الدفع باليومي نحو أقصى الأسئلة حتى تقارب السؤال الوجودي، بالإضافة إلى الاستفادة من كل وسائل التعبير الحديثة دون فقدان البوصلة التي لا بد لها دائما أن تشير إلى الحكاية.