الأغنية التونسية والسلف الصالح

حفاوة إعلامية كبيرة بمهرجان الأغنية التونسية. وفي مقابل الحفاوة الإعلامية والنقل المباشر اليومي لمختلف السهرات يلاحظ عدم اهتمام شعبي. وهذه المفارقة ليست جديدة، فمن زمان كان مهرجان الأغنية خاصا بطبقة نسميها في تونس بالبلْدية، وهم المرفهون من سكان المدن القدامى وأغلبهم من أصول تركية وأندلسية صنعوا فنا أرستقراطيا خاصا بهم وتوارثوه، وحين جاءت دولة الاستقلال اعتمدته فنا رسميا لها، وحظي بالاعتراف والدعم والجوائز.
وفي مقابل فن البلدية، سكان المدن العريقة، كان هناك فن خاص بالمناطق ذات الأصول البدوية، ويسميهم البلْدية بالآفاقيين، أي الذين يعيشون في الآفاق البعيدة عن المدن. فن الآفاقيين، يتأسس على الموال البدوي الذي يقوم على الشجن ويحكي قصص الناس مع الحياة الصعبة وفراق الأحبة بسبب الحروب والتقاليد القبلية. هذا الفن ظل لعقود ممنوعا في التلفزيون دون قرار رسمي لسبب بسيط أنه لا يروق لأذواق الأرستقراطية المسيطرة على الحياة الثقافية.
ولاحقا، ظهر صراع فني جديد بين الأرستقراطية الماسكة بالسلطة لعقود طويلة، والتي تريد ثقافة على مقاسها وأغنية على ذوقها، وبين المِزْوِدْ، وهو فن الأحياء الشعبية، أحياء الصفيح التي تشكلت على تخوم المدن الكبرى، وهو فن يقوم على موسيقى خاصة ويعبر عن معاناة هذه الفئات الفقيرة، التي تركت قراها وأريافها ونزحت إلى المدن بحثا عن العمل.
هذا الفن أيضا كان ممنوعا من الظهور في التلفزيون لأنه فن يتناقض مع مزاج وذوق الأرستقراطية. وتم الاعتراف أولا بالفن البدوي والشعر الشعبي اللذين يتغنيان بحياة البدو حتى وإن كان الشعراء والمغنون يعيشون في المدن، لكنهم يحنون إلى البداوة. ولاحقا تم الاعتراف بالمِزْوِد باعتباره صوت الفئات النازحة التي تزعج البَلْدية.
ودخلت أنماط جديدة من الفن غير الأرستقراطي إلى حياة التونسيين مثل الراي ثم الراب الذي بات الفن الأكثر شعبية بين الشباب من سكان الأرياف وأحياء الصفيح وحتى من أبناء الأرستقراطية التي تلاشت سطوتها الفنية على الذائقة الجماعية، وباتت هامشا محدودا في حياة الناس، وذهبت مع الراديو القديم قبل أن تظهر أشرطة الفيديو ويوتيوب.
ومع هذا التراجع، فإن الأرستقراطية ما تزال تسيطر على القرار الثقافي الرسمي في تونس، وعلى التلفزيون الحكومي، الذي ينأى بنفسه عن الانسياق وراء موجات “الرداءة” و”انعدام الذوق”.
مهرجان الأغنية التونسية ما يزال تحت هيمنة الأرستقراطية التي تصر على أن تقدم أغاني بمزاج قديم بلا جمهور ولا عائدات. المهم أنها تقول للخصوم إن هوية تونس أرستقراطية في فنها وثقافتها، حتى لو كان التمسك بهذا الماضي يجعل هامشا سلفيا في مجتمع تغير ذوقه وسلوكه مئة وثمانين درجة ولم يعد يتغنى بهذا السلف الفني الصالح.