الأغنية التونسية أمام تحدي استعادة جمهورها بعد سنوات من الانتكاسة

عودة مهرجان الأغنية التونسية فرصة لكسر هيمنة الأغاني الشعبية والراب.
الأربعاء 2021/01/27
إرث فني كبير

تشكل عودة مهرجان الأغنية التونسية، المقرر إجراؤه في مارس القادم بعد انقطاع دام ثلاثة عشر عاما، فرصة لإحياء الأغنية التونسية وتصحيح مسارها، في ظل ما عانته من انتكاسة على مدى سنوات طويلة بسبب تراجع الإنتاج مقابل اكتساح المطربين العرب للمشهد الفني. ويؤكد متابعون أن الأغنية تونسية تواجه تحدّي استعادة جمهورها في ظل ما تلاقيه الأغاني الفلكلورية والراب من رواج شعبي كبير.

تونس – تستعد تونس لاحتضان الدورة العشرين من “مهرجان الأغنية” بعد انقطاع دام 13 عاما، فيما يعلق الفنانون آمالا كبيرة في أن يعيد هذا المهرجان المجد للأغنية التونسية التي لم تعد تلاقي رواجا وإقبالا جماهيريا في ظل هيمنة الأغاني الفلكلورية و”الراب” على المشهد الفني.

وخلافا لعصرها الذهبي الذي شهدته في سنوات الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، حين كانت الأغنية التونسية ناجحة موسيقيا وجماهيريا بشهادة النقاد المحليين والدوليين، وشكلت تلك الفترة انطلاقة لعدد من الفنانين نحو الشهرة العربية، فإنها اليوم تواجه تحدي إعادة الوهج السابق بنفس الروح الإبداعية، في زمن تغير فيه الذوق العام ولم يعد الجمهور هو جمهور الراديو أو التلفزيون، مع تحوله نحو وسائط إعلامية جديدة، وهي وسائل التواصل الاجتماعي التي منحته فرصة اكتشاف الموسيقى العالمية وأنماط فنية أخرى.

مقداد السهيلي: الدولة تتحمل مسؤولية اضمحلال الأغنية التونسية
مقداد السهيلي: الدولة تتحمل مسؤولية اضمحلال الأغنية التونسية

وبرأي المتابعين، فإن الأغنية التونسية وهي الوترية الملتزمة عاشت انتكاسة خلال السنوات الأخيرة ومازالت، بسبب أزمة المحتوى والإنتاج، إضافة إلى ضعف التمويل الحكومي للأنشطة الثقافية. لكن المشكلة الأبرز حسب هؤلاء، تتمثل في صعوبات التسويق بسبب تغييبها في وسائل الإعلام المحلية التي تفضل تسويق أغاني تحظى بمتابعة شعبية، حتى تتمكن من الحصول على الدعاية ومرابيح مالية.

وعلى غرار ما تعانيه من تهميش محلي، تواجه الأغنية التونسية منافسة شرسة من الأغاني العربية التي تحظى بمتابعة كبيرة من التونسيين، ولطالما انتقد الفنانون تغييبهم في المهرجانات الكبرى مثل “مهرجان قرطاج” وتعويضهم بنجوم الصف الأول في الشرق، في خطوة أثارت استياءهم وعمقت متاعبهم.

ويعتقد النقيب السابق للفنانين مقداد السهيلي في حديثه لـ”العرب” أن “اضمحلال الأغنية التونسية مسؤولية مشتركة كما تتحمل الدولة المسؤولية في ذلك”. وتابع بالقول “الأغنية تعبير وفن وإحساس وتهذيب ذوق.. وكل هذا من مهام الدولة وعلى عاتقها مسؤولية تهذيب الذوق العام”.

وشبه السهيلي الانتكاسة التي تمر بها الأغنية التونسية بالنكسة الصحية التي تعصف بالبلاد وكل العالم، قائلا “نعيش كورونا موسيقية.. فيما لا تبدو الإجراءات الحكومية كافية لتطويق هذا الوباء.. هكذا هو حال الأغنية التونسية”.

ويقول إن المشهد الفني مريض كحال الدولة اليوم التي تعاني صعوبات في جميع الأصعدة، لكن “ما فاقم أزمة قطاع الثقافة أنه في آخر سلم الاهتمامات دائما، في حين يجب أن يكون هناك وعي بأن الفن صناعة ثقيلة ليس فقط للرفاهية”.

ولا يرى السهيلي أن الشهرة الواسعة لفن الراب وراء تراجع الأغنية الملتزمة اليوم، بل على العكس يرى أن الإقصاء غير محبذ وغير وارد، وفي اعتقاده فإن الإشكالية أعمق حيث أن “الدولة أقصت الفنانين وفتحت الباب أمام فن الراب باعتباره فنا ثوريا”، وهو حسب تقديره “خطأ كبير”.

ومع ذلك، وعلى الرغم من الصعوبات، يعتقد القائمون على مهرجان الأغنية أنه بالوسع إنقاذ الأغنية التونسية، حيث ستشكل الدورة المرتقبة من المهرجان فرصة لمصالحة الجمهور مع موسيقاه وإعادة التعريف بالهوية الموسيقية، كما ستخلق حركية في المجتمع الموسيقي والفني.

دورة التحدي

ثمانينات وتسعينات القرن الماضي مثلت العصر الذهبي للأغنية التونسية، موسيقيا وجماهيريا
ثمانينات وتسعينات القرن الماضي مثلت العصر الذهبي للأغنية التونسية، موسيقيا وجماهيريا

بحسب ما أعلنه منظمو المهرجان في مؤتمر صحافي الأسبوع الماضي، من المقرر أن تنطلق فعاليات مهرجان الأغنية التونسية في دورته العشرين، في 30 مارس وتستمر حتى 3 أبريل المقبل. والمسابقات الرسمية للمهرجان تتمثل في الأغنية الوترية، والإبداع الحر و”منور صمادح” (شاعر/ 1931 ـ 1998) للأغنية الملتزمة، وأحسن أغنية مصورة ـ فيديو كليب.

واعتبر مدير الدورة شكري بوزيان، في تصريحات لوسائل إعلام محلية، أن “الدورة العشرين هي دورة التحدي لاستعادة مجد الأغنية التونسية من جهة وتطوير مضامين مهرجانها وأبعاده من جهة أخرى”، لافتا إلى أن “هذه الدورة ستكون بمثابة فرصة لاكتشاف وجوه جديدة موهوبة في ميادين الشعر والألحان والغناء”.

وحسب بوزيان، بدأ هذا المهرجان العريق منذ ستينات القرن الماضي، لكنه توقف عن التنظيم لمدة 13 سنة، نظرا لعدم وجود أغان تونسية جديدة.

حاتم القيزاني: المشهد الموسيقي لم يكن مستعدا لتأثير وسائل التواصل
حاتم القيزاني: المشهد الموسيقي لم يكن مستعدا لتأثير وسائل التواصل

وأشار إلى أن “أغلب الفنانين في الوقت الراهن أصبحوا يعتمدون على إعادة الأغاني التراثية والفلكلورية (الشعبية)”. ورأى أن الأغنية التونسية لم تجد فضاء ليتنافس فيه الفنانون التونسيون ويقدموا أعمالهم الإبداعية، لذلك كانت عودة هذا المهرجان ملحة.

ومن أهداف التظاهرة، إعادة الثقة والمصالحة بين الفنان والجمهور، كما ستعمل على الانفتاح على جميع الأنماط والتعبيرات الموسيقية بما في ذلك فن “الراب”، وكذلك الانفتاح على كل الجهات والأجيال من خلال بعث 4 لجان جهوية تشرف على اختيار الترشحات وتضمن تمثيل مواهب جل الجهات دون استثناء، سواء في الأداء أو الشعر أو التلحين.

ويشكل جذب الفئة الشابة من أهم التحديات بالنسبة إلى رواد الموسيقى في البلاد، خاصة وأن فن الراب بلغته البسيطة وإيقاعاته الصاخبة، استطاع أن يستحوذ على مشاعر وعقول الشباب.

ويقول فنانون إن وزارة الثقافة باتت منحازة إلى هذا النوع من الفن، خاصة أعقاب اندلاع ثورة يناير، تماشيا مع رغبة الشارع الذي يرى فيه تعبيرا عن مشاغله، فيما تم تهميش الأغنية والهوية الموسيقية الحقيقية.

وتحظى أغاني الراب بمتابعة كبيرة وهو ما تعكسه نسب المشاهدة العالية على موقع يوتيوب، ويقول المتابعون إن كلماتها الجريئة التي تعري واقع الفقراء والمظلومين والتي تحمل روح الغليان الاجتماعي وراء نجاحها الكبير.

إضافة إلى ذلك، تستحوذ الأغاني الفلكلورية والشعبية على اهتمام الجمهور التونسي، وهو ما تكشفه درجة الإقبال على هذا النوع من الفن في المهرجانات، غير أنها متهمة كحال دول عديدة في المنطقة العربية بالانحدار بالذوق العام بسبب نوعية الكلمات والموسيقى التي تختارها، وهي برأي غالبية النقاد نوع من “الموسيقى الهابطة” التي زادت من متاعب القطاع الفني.

ويعتقد القائمون على المهرجان أن مجرد انعقاده في هذه الظروف الصحية الناجمة عن انتشار الوباء يشكل نقطة ضوء؛ نظرا لإحيائه الحركة الثقافية بعد توقف المهرجانات لأشهر طويلة بسبب قيود التنقل، كما أنه سيشكل فرصة لإعادة الإيمان بالأغنية التونسية الملتزمة التي تطرح العديد من القضايا دون التركيز على المحتوى السياسي أو العاطفي.

ويؤكد هؤلاء أن الدورة المرتقبة ستقدم تصورا جديدا قائما على الانفتاح والتجديد، حيث ستكون الأنماط الموسيقية والقوالب الغنائية حاضرة بشرط توفّرها على الجمالية الإبداعية والتقنية.

وتعد الفنانة الشابة روضة عبدالله من المشاركات في المسابقة الرسمية لمهرجان الأغنية التونسية، وهي من الجيل الجديد من الفنانين التي تلاقي خطواتها الفنية استحسان الجمهور. وسبق أن أحرزت على جائزة ‘أفضل عرض تونسي’ في الدورة الثالثة لأيام قرطاج الموسيقية في عام 2016.

أغاني الراب تحظى بمتابعة كبيرة لدى الأوساط الشابة، وهو ما تعكسه نسب المشاهدة العالية على موقع يوتيوب
أغاني الراب تحظى بمتابعة كبيرة لدى الأوساط الشابة، وهو ما تعكسه نسب المشاهدة العالية على موقع يوتيوب

وأعربت عبدالله في حديثها لـ”العرب” عن سعادتها بعودة مهرجان عريق مثل مهرجان الأغنية الذي تراه فرصة للقاء المبدعين وسماع أغنية تونسية والتعرف على مواهب جديدة، ما من شأنه أن يحدث حركة فنية، لافتة إلى أن “جميع المهرجانات يجب أن تعمل على خدمة الأغنية التونسية دون الاقتصار على مهرجان بعينه”.

وتعتقد أن أسباب تراجع الأغنية التونسية ناجمة عن تغييبها الإعلامي أساسا. كما أن غياب مشروع ثقافي وعدم الرهان على الثقافة والأغنية التونسية، عمّقا الأزمة.

وتقول “الإنتاج موجود والإبداع كذلك، لكن إعلاميا الأغنية التونسية مغيبة، يجب أن نرى كل الأشكال الموسيقية في الإعلام وننفتح على كل التجارب الفنية”.

وتشير عبدالله إلى ضرورة وجود إرادة سياسية كاملة حتى تكون الأغنية التونسية موجودة وتفرض نفسها على المشهد الفني.

ويرى متابعون أن المشهد الفني في تونس يعاني التهميش بسبب الموازنة المالية المحدودة لوزارة الثقافة، كما تأثر بسبب الأوضاع السياسية الغير مستقرة منذ اندلاع ثورة يناير وبسبب ما تعيشه البلاد من مخاض انتقالي، وهو ما ألقى بظلاله على الإنتاج الموسيقي الذي يحتاج الدعم والدعاية والتسويق.

وتلفت عبدالله بالقول “المشهد السياسي طغى على المشهد الفني دون تقديم مشاريع فنية للبلاد”. وتؤكد أن الأغنية التونسية يجب أن تكون حاضرة باعتبارها من ثوابت الهوية الوطنية، وأن الفنان يجب أن يواصل مشواره وخطاه بثبات وأن يرسم له خطا موسيقاه ثم يسعى للإنتاج والتسويق والترويج لأعماله.

عائق تسويقي

روضة عبدالله: الإنتاج موجود، لكن الأغنية التونسية مغيبة إعلاميا
روضة عبدالله: الإنتاج موجود، لكن الأغنية التونسية مغيبة إعلاميا

على غرار تراجعها شعبيا، وعدم وضوح الإستراتيجية الثقافية لمعالجة نقائص المشهد الموسيقي في تونس، يرى خبراء ومتابعون أن الأغنية التونسية لم تكن مستعدة للمتغيرات التي رافقت الفن عالميا، مع انفتاحه على التكنولوجيا وتسويقه على وسائل التواصل الاجتماعي، ليقع بذلك تجاوز الطرق التقليدية.

ويؤكد هؤلاء على وجود صعوبات في تسويق الأغنية التونسية وأن المشكلة ليست في المحتوى الإبداعي.

وأوضح المنسق الفني لمهرجان الأغنية حاتم القيزاني، وهو شاعر تونسي قام بتأليف أشهر الأغاني التونسية، في حديثه لـ”العرب” أن مهرجان الأغنية سبيل من السبل التي تسعى لإحياء الأغنية التونسية من جديد وتصحح مسارها. لافتا إلى أن المشهد الغنائي لم يكن مؤهلا لبعض المتغيرات، وما فاقم الأزمة غياب شركات الإنتاج التي كان يتراوح عددها بين 12 شركة إنتاج.

ويتسق رأي القيزاني مع رأي كثيرين، فالإعلام المحلي يتحمل مسؤوليته في تغييب الأغنية التونسية على رغم أن عددها بات أكبر من فترة الثمانينات التي راهنت على الأغنية التونسية رغم تواضع الوسائل الإعلامية.

ويقول “كنا نتوقع أن المحطات الإعلامية حين تتكاثر ستخدم مصلحة الفن التونسي، لكن أغلبها مجرد دكاكين إعلامية غايتها تجارية أكثر منها أنها تحمي وتدعم الثقافة بصفة عامة والمشهد الغنائي بصفة خاصة”.

وحسب القيزاني، ما زاد من الصعوبات، أن المشهد الموسيقي التونسي لم يكن مؤهلا لظهور متغيرات مثل اليوتيوب وشبكات التواصل الاجتماعي في ظل عدم وجود قناة مختصة لبث الأغاني التونسية، في حين تركز بقية القنوات على الأغاني المشرقية.

ويؤكد أن العائق الأساسي هو عائق تسويقي. ويشير “إذا غابت أرضية التسويق فسيؤثر ذلك على النسق الإنتاجي للمبدعين”. وخلص بالقول “أعتبر أن المسالة تسويقية تنظيمية أساسا وليست إبداعية”.

12