الأزمنة الحديثة.. التقاط سينمائي مبكر لآثار المكننة والرأسمالية

الاهتمام بتاريخ السينما العالمية، والعربية منها، هو اهتمام بصلة الإنسان بالفنون، وهو أيضا اطلاع على انعكاس الواقع الإنساني بمختلف تجلياته، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، على ذلك الجنس من الفن، أو لنقل إنه كان من أصدق الفنون نقلا للواقع ونقدا له وتعرية لعيوبه.
لم يكن الفنّ السابع على قطيعة مع بقية الفنون التي وُلدت قبله وفق الترتيب الكرونولوجي التاريخي، من قبيل الموسيقى وفن العمارة والنحت والرقص والشعر والرسم، بل كان امتدادا لها ومستفيدا منها ومفيدا لها.ولئن لم تبدأ السينما مع منجز الفنان الإنكليزي شارلي شابلن، إلا أننا آثرنا أن ندشّنَ رصْدنا للأفلام التي لا تموت مع أثره الكبير “الأزمنة الحديثة” بوصفه عملا تأسيسيا، وفّر عمقا فنيا وسينمائيا كافيا للتعرف على ما صاحب تلك المرحلة من تحولات اقتصادية واجتماعية. كان فيلم “الأزمنة الحديثة” جريئا في نقده للتغيّرات الرأسمالية العارمة، وكان مستشرفا لما يمكن أن تسفر عنه تلك التحولات من آثار مازالت موجاتها الارتدادية ماثلة إلى اليوم.
قدّم شارلي شابلن في “الأزمنة الحديثة” نقدا كوميديا للرأسمالية ولكل ما أنتجته من نتائج بالغة الخطورة في فترة ما بين الحربين العالميتين، وكان “هجاء لمراحل معيّنة من حياتنا الصناعية” وفق تعبير شابلن نفسه، ولذلك ظل العمل خالدا وثابتا في موقعه بالذاكرة السينمائية، بعد عقود كثيرة من إنجازه وبعد ظهور الآلاف من الأعمال التي تناولت مختلف المواضيع الإنسانية. ويمثل “الأزمنة الحديثة” إطلالة ضرورية على تاريخ السينما، ودليلا على قدرة هذا الفن على فهم اللحظة واستشراف الاستتباعات.
في مسيرة فنان السينما العبقري شارلي شابلن يعتبر فيلم “الأزمنة الحديثة” واحدا من أعظم أفلامه وأكثرها تمتعا بالحيوية السينمائية، وبعد أكثر من ثمانين عاما على ظهوره لا يزال الفيلم يتمتع بالجاذبية والرونق والسحر، فقبل عامين تجمّع أكثر من سبعة آلاف شخص في الساحة الرئيسية بمدينة بولونيا الإيطالية لمشاهدة النسخة الجديدة من الفيلم الكلاسيكي في افتتاح مهرجان الأفلام المستعادة.
عندما أخرج شارلي شابلن “الأزمنة الحديثة” Modern Times في منتصف الثلاثينات كان في ذهنه أن يجعل فيلمه تعليقا ساخرا على ما تسبب فيه “الكساد العظيم” في الولايات المتحدة من جعل حياة الملايين من العمال جحيما بسبب تفشي البطالة، وفي الوقت ذاته يحذر بطريقته الخاصة بالطبع، من طغيان “الميكنة” أو الاستخدام المكثف للآلات المعقدة في الصناعة بديلا عن العمال من أجل زيادة الإنتاج، وكيف أصبح طابع العصر هو السرعة في كل شيء وهو ما يعبّر عنه شابلن بعبقرية في المشاهد التي تظهر كيف أصبح عقل بطله مبرمجا بصورة آلية، فنراه يتحرك حركة دودية مستمرة، يحاول في مشهد ساخر ربط أزرار رداء لسيدة في الشارع باستخدام الآلة التي يستخدمها في المصنع الذي فر منه بعد أن فقد السيطرة تماما على نفسه!
كان شابلن يسخر من الاستغلال الرأسمالي، مصورا طغيان أصحاب المصانع وكيف أصبح العامل ترسا صغيرا في عجلة ضخمة للصناعة الحديثة. وهو يقوم هنا، للمرة الأخيرة في السينما، بدوره التقليدي الذي اشتهر به منذ أن بدأ العمل في السينما، أي دور شارلي الصعلوك، وهو يبحث عن عمل في أحد تلك المصانع من دون أن يملك الخبرة الكافية للتأقلم مع نظام العمل الجديد. إننا نراه أولا في مصنع للأدوات المعدنية، كل ما هو مطلوب منه أن يمسك بآلتين يتابع بهما القطع المتحركة التي تتوالى أمامه بسرعة لكي يربط المسمارين الموجودين في كل قطعة ضمن صف طويل من العمال الذين يسبقونه في العمل بحكم خبرتهم، بينما يرتبك هو ويربك الآخرين، ليعود في الاتجاه المعاكس لتعويض ما فاته، مما يتسبب في وقوع فوضى تؤدي إلى طرده من العمل.
يلمح شارلي مظاهرة للعمال احتجاجا على الاستغلال الرأسمالي، من الواضح أنها مظاهرة شيوعية، يسقط العلم الأحمر من يدي أحد العمال، يلتقطه شارلي ويحاول أن ينضم إلى الحشد محاولا إعادة العلم إلى الرجل، لكن الشرطة تقبض عليه باعتباره زعيما للعمال المضربين عن العمل. وفي الفيلم الكثير من المشاهد لإضرابات عمالية أو لعمال كثيرين يتجمعون أمام باب مصنع يرغبون في الحصول على عمل، بينما يتم اختيار عدد محدود منهم ومن بينهم شارلي الذي يتمكن من النفاذ والتسلل بسبب جسده النحيل وكذلك يتيح له أيضا النجاة في المواقف الصعبة.
الفيلم مصور على هيئة مشاهد منفصلة وليس من خلال قصة مترابطة الأركان، يجمع بينها شارلي وهو ينتقل من عمل إلى آخر ومن مأزق إلى مأزق آخر، وهو يبدو ضئيلا بحجمه الصغير قياسا إلى العمالقة الذين يظهرون إلى جواره، ولكنه يتمتع بطيبة قلب فطرية مما يسبب له الكثير من المشاكل ودخول السجن. ولأنه لا يستطيع أن يعول نفسه في الخارج فإنه يفعل كل ما يمكنه للبقاء في السجن، فهو على سبيل المثال يتعامل بحجمه الضئيل هذا مع ثلاثة لصوص أغاروا على السجن لإطلاق سراح زميل لهم محبوس هناك، ويتمكن بفضل سرعة بديهته ورشاقته وقدرته على المناورة بجسده، من السيطرة عليهم وتسليمهم لحراس السجن، فتتم ترقيته كسجين، يخصصون له فراشا جيدا وطعاما لا بأس به. وعندما تحين لحظة إطلاق سراحه يقاوم ويتضرع للبقاء، فهو لا يضمن العثور على مثل هذا الفراش والطعام في الخارج. لكنهم يمنحونه خطاب تزكية بحسن سلوكه لكي يتمكن من الحصول على عمل.

شارلي شابلن كان يسخر من الاستغلال الرأسمالي، مصورا طغيان أصحاب المصانع وكيف أصبح العامل ترسا صغيرا في عجلة ضخمة للصناعة الحديثة
شابلن في هذا الفيلم ليس فقط ممثلا بل هو راقص ومؤدّ ورجل استعراض وساخر عظيم، لكنه لا يغفل أيضا الجانب الرومانسي، فهو يلتقي بتلك اللصة الحسناء، بوليت غودارد، التي تسرق لكي توفر الطعام لشقيقتيها الطفلتين ووالدها العامل العاطل. يشفق شارلي عليها ويتستر على سرقتها رغيفا من الخبز، لكنهم يكتشفون لعبته ويقبضون عليها فتتمكن من الهرب وتلحق به.
شارلي في أحد أفضل مشاهد الفيلم وأكثرها تميزا في الإخراج والحركة والأداء، يدعو بوليت إلى متجر كبير حصل على وظيفة حارس ليلي فيه، وفي الطابق الرابع يريد أن يستعرض مهارته في الانزلاق وهو معصوب العينين، فيرتدي حذاء الانزلاق ويبدأ في الانزلاق على الأرضية، مقتربا من الحافة الخطرة التي تشرف على هوة سحيقة ويكاد يفقد توازنه عدة مرات، ويسقط في الطابق السفلي لكنه يتمكن بفضل رشاقته وبراعته في الحدس من الدوران ومواصلة الانزلاق إلى أن تجذبه الفتاة بعيدا.
بسبب قدرتها الكبيرة على الرقص الاستعراضي تعثر بوليت على عمل في ملهى ليلي، ويلحق بها شارلي الذي تقدمه لصاحب الملهى مشيدة ببراعته في الرقص والغناء، فيمنحه عملا كخادم يقدم الطعام والشراب لرواد المكان، لكنه يتسبب في وقوع الكثير من المفارقات المضحكة التي تنشر الفوضى في أرجاء المكان، من خلال مشاهد تفيض بالحركة وتولد الضحك. وعندما يصر صاحب الملهى على أن يراه وهو يغني ويرقص يقدم شارلي رقصة بديعة ثم يلقي أغنية بالإيطالية بكلمات لا معنى لها غالبا، لكنها مطعّمة بالحركة التعبيرية الساخرة، على نغمات موسيقى السيرك المعروفة. وهذا هو المشهد الوحيد الناطق في الفيلم، باستثناء هذا المشهد يجعل شابلن مدير المصنع يراقب العمال من خلال دائرة تلفزيونية مغلقة داخلية في مكتبه بالطابق العلوي في المصنع (في رؤية مستقبلية لما سيحدث في ما بعد)، ويلقي بتعليماته وأوامره للعمال من خلال نظام داخلي للصوت ويجعلنا نسمع صوته، أي أن شابلن الذي صنع فيلمه بإمكانيات الصوت ولكن بتقاليد الفيلم الصامت، حصر الحديث المباشر في مواقف قليلة للغاية مثل غمغمة العمال وأوامر المدير. والمعروف أنه كان يعتزم في البداية أن يكون “الأزمنة الحديثة” أول أفلامه الناطقة، وقد كتب له الحوار، كما صور بعض المشاهد الناطقة لكنه تراجع بعد أن أيقن أن التجربة ستكون كارثية، فقرر أن يكتفي بقدر ضئيل من “الصوت” مستغنيا عن الحوار، مستعينا باللوحات التي تظهر عليها بعض العبارات البديلة للحوار حسب تقاليد الفيلم الصامت، كما يستعين بالموسيقى سريعة الإيقاع التي تتناغم تماما مع الصورة. وقد كتب شابلن موسيقى الفيلم بنفسه، بالإضافة إلى السيناريو والتمثيل والإخراج.
صوت سيارة الشرطة نسمعه على شريط الصوت أكثر من مرة. ومن داخل السيارة يصور شابلن مشهدين من أفضل مشاهد الفيلم وأكثرها إثارة، ويصور مشهدا آخر يدور على مستوى الحلم، عندما تجلس بوليت معه وتتصور أنها زوجته وأنهما يعيشان في منزل أنيق في الريف، كما يتصور هو أن البقرة التي يمتلكانها تمر من أمام باب المنزل ليضع هو آنية تحتها مباشرة بعد أن يأمرها بالوقوف فينزل الحليب من ثديها فيتناول الآنية ويضعها على مائدة ويجلس لتناول الطعام مع بوليت التي تكون قد أعدت قطعة ضخمة من اللحم. وعلى صورة الطعام الشهي يستيقظ الاثنان من الحلم على جوع يكاد يفتك بهما. وعندما يجتمع شارلي وبوليت أخيرا في كوخ خشبي شبه مهدم على الشاطئ، يخرج شارلي يرتدي، بثقة، ملابس البحر ويلقي بنفسه في الماء ليصطدم بالأرض، فمستوى الماء ضحل، لكنه يستمر في العيش على الأمل. وفي اللقطة الأخيرة من الفيلم يسير الاثنان وهما يشعران بالسعادة كونهما مازالا معا يحلمان بمستقبل أفضل.
أداء شابلن في الفيلم أقرب ما يكون إلى التمثيل الصامت، بل هو كذلك بالفعل، وهو استعراض بارع لقدراته في فن “البانتومايم” الذي يجيده منذ أن كان يعمل في طفولته في السيرك. أما بوليت غودارد (1910 - 1990) التي شاركته البطولة فكان هذا فيلمها الأول مع شابلن الذي ارتبطت معه بعلاقة غرامية، فأسند إليها أيضا بطولة فيلمه التالي الشهير “الدكتاتور العظيم” (1940). ويستخدم شابلن فكرة الآلات المعقدة ذات التروس الكبيرة المتحركة في الكثير من مشاهد الفيلم ليوحي بضآلة العامل بجوار الآلة وعجزه عن التحكم فيها تماما، وما يمكن أن تفعله من تدمير إنسانية الإنسان كما في المشهد الذي نرى فيه اختراعا مقصودا منه توفير الوقت واختصار فترة الغذاء التي يتوقف خلالها العمال عن العمل، فالشركة التي تروج للجهاز الجديد ترسل الجهاز ومعه من يقومون بتشغيله لصاحب المصنع الذي يعمل فيه شارلي.
ويتم اختيار شارلي لتجربة الجهاز عليه، ونرى في مشاهد شديدة السخرية والفكاهة كيف يفشل الجهاز في تقديم الطعام إلى العامل المسكين الذي يربطونه داخل الجهاز، ومع تشغيل ذراع كهربائية يصطدم الصحن بوجه شارلي أو يدور في حركة سريعة تجعل صاحبنا يبدو مثل الكلب الذي كان العالم الروسي بافلوف يجري عليه تجاربه في ما يعرف بـ”ردات الفعل المشروط”، ولكن بالطبع في إطار هزلي. وفي مشهد آخر من أفضل مشاهد الفيلم يعمل شارلي مساعدا لميكانيكي يقوم بإصلاح الآلات الضخمة المعقدة، يحمل حقيبة خشبية ضخمة تحوي آلات العمل، يتطوح بها غير قادر على التحكم فيها، ثم يفقدها تحت التروس الضخمة التي تسحقها، ثم يفقد رئيسه نفسه بعد أن تبتلعه العجلات الضخمة بتروسها الكثيرة، ويبذل شارلي جهدا كبيرا لإخراجه لكنه لا ينجح فيجلس لتناول طعام الغذاء، ثم تبرز رأس الرجل من بين التروس فيبدأ في محاولة وضع الطعام في فمه، والمشهد تعليق ساخر على تأثير الآلة الحديثة على العامل وكيف تسحقه (حرفيا).
عرض “الأزمنة الحديثة” في دور العرض الأميركية في الخامس من فبراير 1936 بعد خمس سنوات من فيلم شابلن السابق “أضواء المدينة”، وقوبل من جانب الصحافة بترحيب كبير. وكان شابلن في ذلك الوقت قد بلغ قمته كنجم جماهيري يحظى بشعبية لم ينلها ممثل من قبله.
أبيل غرين مثلا كتب في مجلة “فاريتي” أقدم مجلات صناعة السينما في العالم بتاريخ 11 فبراير 1936 يقول “أيا كان المغزى السوسيولوجي الذي يمكن أن يقرأه البعض في ‘الأزمنة الحديثة’ إلا أنه ليس من الممكن إنكار أن الفيلم يمتلئ بالمتعة السينمائية، فكل موقف فكاهي، وكل الألاعيب المضحكة وروح الكوميديا الكامنة تنتج عن موقف مبرر تماما”.
وقد أصدر وزير الدعاية في ألمانيا النازية جوزيف غوبلز قرارا بمنع عرض “الأزمنة الحديثة” بدعوى أنه يتضمن في طياته “ميولا شيوعية”. وقالت وكالة رويترز التي نقلت الخبر وقتها، إن هذه الخطوة هي الأخيرة للتخلص التام من أفلام شابلن، بسبب التشكك في أن أصوله لا تنتمي للجنس الآري، وأشارت إلى أن صور شابلن وملصقات أفلامه التي كانت تملأ المحلات في عموم برلين قد اختفت تماما. أما فيلم “الدكتاتور العظيم” الذي سيخرجه شابلن بعد أربع سنوات فسيدفع هتلر إلى الجنون!