الأزمة السياسية تتيح للمصارف اللبنانية التقاط أنفاسها

اتسع الجدل في لبنان بشأن شلل القطاع المصرفي، الذي يعدّ أكبر القلاع التي تمنع انهيار الاقتصاد، في ظل استمرار غياب المصارف في إجازة مفتوحة تعرقل حركة الأموال والتحويلات المالية، في وقت تشير فيه تقديرات إلى ارتفاع تكلفة الاحتجاجات إلى أكثر من مليار دولار.
بعد تمديد إغلاق المصارف بشكل يومي، انتقلت جمعية مصارف لبنان إلى الإعلان عن استمرار إغلاق أبوابها إلى أجل غير مسمى لحين عودة الاستقرار، وعللت ذلك بوجود بواعث قلق بشأن السلامة.
وتخشى أوساط اقتصادية من غموض موعد عودة نشاط المصارف بسبب ربطه بعودة الاستقرار، في وقت لم تظهر فيه أي بوادر على فرص انتهاء الاحتجاجات بعد رفض المحتجين لخطط الإصلاح التي أقرها مجلس الوزراء ووعود رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية.
ويتمسك المحتجون بسقف مرتفع من المطالب يصعب تنفيذه من قبل الطبقة السياسية، لأنه يتضمن إنهاء المحاصصة الطائفية وتغيير النظام السياسي واستعادة الأموال التي نهبها السياسيون منذ عام 1982.
وقد أدى إغلاق المصارف المحلية إلى خنق شريان تحويلات المغتربين اللبنانيين في الخارج، التي تعيل نسبة كبيرة من الأسر، التي ليس لديها مصدر آخر للدخل في ظل شلل الاقتصاد وارتفاع البطالة.
كما أدى ذلك إلى شلل معظم نشاطات القطاعات الاقتصادية والتجارية، وتفاقم شحة الدولار الذي يستخدم بكثافة في الدورة الاقتصادية اللبنانية منذ عقود، والذي تحتاجه الشركات لمواصلة نشاطها.
وانعكس ذلك في اتساع الفجوة بين السعر الرسمي للعملة اللبنانية المثبت عند 1507 ليرات للدولار وبين أسعار السوق السوداء التي بلغت خلال اليومين الماضيين أكثر من 1800 ليرة للدولار بسبب توقف إمدادات المصارف والبنك المركزي من الدولار والعملات الأجنبية.
وحاول رئيس جمعية مصارف لبنان ورئيس بنك بيروت، سليم صفير، طمأنة اللبنانيين بالقول إنه “على ثقة كبيرة بأن المصارف تستطيع استئناف خدمة زبائنها بالطاقة القصوى فور عودة الأوضاع لطبيعتها”.
وأضاف أن المصارف اللبنانية “سبق أن عملت في الماضي في أحلك اللحظات وأصعبها، ولم نتخلف قط أو نهمل التزاماتنا”.
وتواصل أمس إغلاق جميع المصارف اللبنانية لليوم السابع على التوالي. وقالت جمعية المصارف إن البنوك ستظل مغلقة لحماية الزبائن والموظفين والممتلكات. وأكدت في بيان أن عمل البنوك سيقتصر على توفير الرواتب من خلال أجهزة الصراف الآلي.
وأعلن رئيس الحكومة سعد الحريري هذا الأسبوع عن موافقة مجلس الوزراء على حزمة إصلاحات طارئة تشمل العديد من الإجراءات على رأسها خفض رواتب الوزراء ونواب البرلمان إلى النصف وخطوات طال تأجيلها لإصلاح الأوضاع المالية للدولة المثقلة بالديون.
لكن ذلك لم ينجح حتى الآن في نزع فتيل المظاهرات أو إقناع المانحين الدوليين بتقديم المليارات التي تعهدوا بها خلال مؤتمر في باريس العام الماضي.
وقال الحريري من خلال الإعلان عن الإصلاحات إن القطاع المصرفي سيقدم 5.1 تريليون ليرة لبنانية (3.4 مليار دولار) للمساهمة في خفض عجز ميزانية 2020، بوسائل من بينها زيادة ضريبية على الأرباح.
وتراجع الدعم الدولي وبضمنه دعم دول الخليج في السنوات الماضية بسبب تشرذم القوى السياسية وصراعاتها واتساع نفوذ الأجندات السياسية وخاصة الإيرانية من خلال جماعة حزب الله الموالية لها.
وتشير التقديرات إلى تراجع حاد في تدفق تحويلات المغتربين من أنحاء العالم منذ بدء الاحتجاجات، بعد أن شهدت انحسارا تدريجيا في السنوات الأخيرة بسبب انهيار الثقة بمستقبل الاقتصاد اللبناني.
ويقول خبراء الاقتصاد إن أحد أسباب ذلك التراجع هو قلق بعض المغتربين من خطر انهيار اقتصادي يلوح في الأفق.
أما السبب الآخر تراجع أسعار النفط الذي ألحق الضرر بسوق العمل في منطقة الخليج، التي يعمل فيها مئات آلاف اللبنانيين.
وكانت تحويلات المغتربين اللبنانيين قد بلغت ذروتها في عام 2014 حين وصلت إلى 9.6 مليار دولار، لكنها تراجعت تدريجيا لتبلغ في العام الماضي نحو 7.7 مليار دولار.
ويرجح جاربيس إراديان من معهد التمويل الدولي أن تتراجع هذا العام إلى 6.5 مليار دولار دون الأخذ في الاعتبار تأثير الاحتجاجات الأخيرة، التي يمكن أن تقلصها بدرجة أكبر.
وحذرت وكالة ستاندرد أند بورز للتصنيف الائتماني الشهر الماضي من أن انحسار تحويلات المغتربين يسهم في انخفاض سريع في احتياطات العملات الأجنبية الأمر الذي يمثل تحديا لقدرة لبنان على الحفاظ على ربط عملته بالدولار الأميركي.
ولا يقتصر قلق اللبنانين اللذين يعملون في الخارج على عوائق إرسال الأموال بسبب إغلاق المصارف، بل تمتد المخاوف إلى مخاطر خفض محتمل لقيمة العملة اللبنانية وتأثير أي اضطرابات جديدة على مدخراتهم واستثماراتهم.
وعطل إغلاق أبواب المصارف اللبنانية الإجراءات التي وعد مصرف لبنان المركزي بتطبيقها والهادفة إلى معالجة أزمة شحة الدولار، والتي سبق أن أدّت إلى إغلاق محطات الوقود والمخابز والأفران، التي تشكو من اضطرارها لشراء الدولار من السوق السوداء، والذي يجبرها على رفع الأسعار على المستهلكين.
وتعهد مصرف لبنان بتوفير الدولارات لمستوردي السلع الأساسية إضافة إلى تسديد أعباء الحكومة وتسديد التزاماتها وتغطية أعباء الدين العام، الذي يبلغ 86 مليار دولار ويعادل أكثر من 150 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
لكن وكالات التصنيف الائتماني حذرت من خطورة إجراءات البنك المركزي لأنها تؤدي إلى تقليص قدرته على حماية ربط الليرة بالدولار وهو حجر الزاوية الذي يمنع انهيار لبنان وإفلاسه.
وتتصاعد التحذيرات في الأوساط الاقتصادية اللبنانية من الثمن الباهظ لاستمرار الاحتجاجات لفترة طويلة، والتي يمكن أن تفاقم الأزمات الاقتصادية العميقة.
وقال وزير الاقتصاد السابق رائد خوري إن الكلفة اليومية لتعطيل البلاد اليومية تقارب 138 مليون دولار، وكلفة الأسبوع الكامل تجاوزت 972 مليون دولار، على اعتبار أن الناتج القومي السنوي للبنان يساوي 50 مليار دولار.
وأضاف أنها ثمن باهظ وأنها تأتي “نتيجة التأثير المباشر لتوقف الدورة الاقتصادية، إضافة إلى تكلفة تراجع الثقة التي تؤدي لانخفاض سندات الخزينة، التي تراجعت خلال أسبوع بنحو 4 بالمئة” وهو ما يرفع تكلفة الاقتراض وأعباء الديون.