الأزمة السياسية الداخلية تُبعد تونس عن فلك أفريقيا

شكل الاقتراب من دول أفريقيا عبر بوابة تفعيل السياسة الخارجية التونسية أحد أبرز الأنشطة الدبلوماسية، التي تجاهلتها أطراف السلطة خلال السنوات الأخيرة بسبب التعقيدات التي تعيشها الساحة السياسية ما أوجد حالة من الضجر بين المتابعين تمثلت في سيل من الانتقادات لقصور النشاط الخارجي مع باقي دول القارة وسبل تطوير العلاقات معها، فضلا عن محدودية تعزيز الشراكة الأفريقية في عدة مجالات حيوية.
تونس - خلفت التفاعلات الداخلية على الساحة السياسة التونسية الكثير من ردود الأفعال المنتقدة لما آلات إليه الأوضاع وما لها من ارتدادات على علاقة تونس ببلدان أفريقيا، والتي يبدو أنها تسببت في الابتعاد بشكل أكبر من فلك القارة رغم الفوائد التي قد تجنيها من وراء بناء أي تقارب ثنائي.
ويرى مراقبون أن تونس لم تفعّل نشاطها الدبلوماسي مع الحكومات الأفريقية، رغم دورها المهم في نشأة منظّمة الوحدة الأفريقية في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في الـ25 من مايو 1963، حينما لعبت إبان الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة في هذا المستوى دورا نشيطا ومباشرا سواء أثناء الإعداد للمؤتمر أو ضمن فعالياته.
ودفع التذبذب الحاصل، شخصيات سياسية إلى انتقاد “جمود” النشاط الدبلوماسي التونسي منذ 2011 مع الدول الأفريقية. واتهمت أطراف السلطة بإهمال معطى السياسة الخارجية في أعمالها بعد أن انشغلت الطبقة السياسية بصراعاتها الداخلية دون توسيع مجالات عملها مع أبرز بلدان القارة.
مفتاح تحريك الدبلوماسية
قد تكون زيارة وزير الخارجية التونسي عثمان الجرندي، التي تبدأ الثلاثاء وتستمر ثلاثة أيام، إلى الكونغو الديمقراطية المفتاح لإعادة وضع خارطة دبلوماسية مع بلدان أفريقيا، لكن مع ذلك تبدو زيارةً في الوقت الضائع بالنظر إلى الوقت الذي تم إهداره منذ وصول الرئيس قيس سعيّد إلى السلطة من أجل تحريك الدبلوماسية في اتجاه القارة.
وذكرت وزارة الخارجية في بيان أن الجرندي “يؤدي زيارة عمل إلى جمهورية الكونغو الدّيمقراطيّة، محمّلا برسالة أخوة وصداقة من رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد، إلى نظيره الكونغولي فيليكس أنطوان تشيسيكيدي تشيلومبو”.
وسيجري الجرندي لقاءات مع كلّ من تشيلومبو ورئيسي الجمعيّة الوطنيّة ومجلس الشيوخ (البرلمان)
ووزيرة خارجيّة الكونغو الديمقراطية للتباحث بخصوص تعزيز العلاقات الثنائية ولاسيما الإطار القانوني المنظم للعلاقات بما من شأنه تطوير التعاون واستكشاف فرص مبتكرة لتعزيز المبادلات الاقتصادية علاوة عن تبادل الآراء والتنسيق حول أهم القضايا الإقليمية والدّولية ذات الاهتمام المشترك.
كما سيحظى المجال الاقتصادي بحيز مهم من الزيارة إذ سيترأس الجرندي الوفد التونسي المشارك في الدورة الثالثة للمنتدى الاقتصادي التونسي – الكونغولي، الذي سينطلق الأربعاء ويستمر يومين في العاصمة كنشاسا بمبادرة من مجلس الأعمال التونسي – الأفريقي والسفارة التونسية لدى الكونغو الديمقراطية.
وتسعى تونس في الزيارة إلى إظهار التزامها بتحقيق الأمن ببلدان القارة، فبعد احتفاء بمرور ستين عاما على مشاركتها في بعثة القبّعات الزرق الأولى بالكونغو الدّيمقراطيّة، سيلتقي الجرندي بالرّئيسة الجديدة لبعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار بالكونغو، بينتو كايتا، وضبّاط تونسيين يشاركون في بعثة حفظ السلام بالبلد الأفريقي.
غياب متكرر للرئيس
رصد المتابعون للشأن التونسي غيابا ملحوظا ومتكررا وغير مبرر للرئيس سعيّد باعتباره مسؤولا عن العلاقات الخارجية وفقا لدستور البلاد، عن المحافل والملتقيات الدولية الهامة منها منتدى السلام الذي عقد بباريس في التاسع من نوفمبر 2019 حول التنمية المستدامة.
كما تغيّب في نفس الشهر عن قمة ألمانيا – أفريقيا للاستثمار، وعن المؤتمر الحواري المتوسطي في نسخته الثالثة التي عقدت ما بين 30 نوفمبر و2 ديسمبر 2019، وكذلك مؤتمر دافوس الاقتصادي العالمي في يناير العام الماضي، والقمة الأفريقية – الصينية في منتصف يونيو الماضي، وصولا إلى القمة الأفريقية 34 المنعقدة في فبراير 2021.
ويعتقد المحلل السياسي عبدالعزيز القطي أن “الانتقادات الدبلوماسية موجودة على كل المستويات وعمقتها جائحة كورونا وعدم التنقل الخارجي، وبات من الواضح الآن أن الرئيس سعيّد أصبح له بعض الأولويات للقيام بزيارات أفريقية، وزيارته إلى الجارة ليبيا كانت ناجحة”.
وقال في تصريحات لـ”العرب” إن “الدبلوماسية التونسية في أفريقيا ضعيفة، ولم نعط أهمية لهذه القارة، ولا بد من وضع استراتيجية كاملة للنشاط الدبلوماسي وليست تلك المناسباتية، ويجب أن نعرف ماذا نريد من أفريقيا”.
كما اعتبر أنه ليس هناك تمش منبثق عن رؤية واضحة نظرا للتقاطعات والعبث السياسي، ولم يأت حتى الآن وزير خارجية يعطي أهمية لهذا العمل، ورئاسة الجمهورية منذ العام 2011 إلى الآن لم تهتم بهذا الأمر، إلا مع الرئيس السابق الراحل الباجي قائد السبسي الذي نشط مع بعض الدول حول بعض المشاريع.
ولذلك، فإن القطي لا يرى خيارات أخرى سوى تفعيل النشاط الدبلوماسي بعيدا عن الحسابات الضيقة والأجندات الحزبية الخاصة.
تأثير الصراعات الداخلية

لم تفلح الطبقة السياسية للمنظومة الحالية، في تعديل بوصلة الدبلوماسية “التائهة”، حيث انشغلت مكونات المشهد السياسي بخلافات داخلية طغت عليها الحسابات والأجندات، وسط مشهد ضبابي يفتقد إلى الرؤية الواضحة في تحديد الأهداف.
ووصف النائب المستقل بالبرلمان حاتم المليكي الدبلوماسية الخارجية في العقد الأخير بـ”المتخبطة”، قائلا “كانت مرتبطة بحركة النهضة باعتبارها الحزب الحاكم، ونظرا لعدم الترحيب بالتيارات الإسلامية في هذا الشأن”.
وقال المليكي في تصريح لـ”العرب”، “هناك انعدام للكفاءة، وباستثناء الرئيس السابق الراحل قائد السبسي، لم تكن الدبلوماسية نشطة، فضلا عن التحول في إدارة الشأن الدبلوماسي، وغياب خطة واضحة لإعادة هيكلة وزارة الشؤون الخارجية”.
وبسبب ذلك، فهو يطالب كغيره من الأوساط السياسية مؤسسة رئاسة الجمهورية بتحديد أولوياتها في السياسة الخارجية، قائلا “نتمنى أن تثمر زيارة الجرندي نتائج إيجابية، والكنغو الديمقراطية موقعها الجغرافي ممتاز وفيها العديد من إمكانيات التعاون”.
وبخصوص الوجهات الأفريقية التي تضطلع بأهمية إقليمية ودولية كبرى، دعا المليكي إلى التركيز على أربعة محاور مهمة، منها المحور التقليدي والطبيعي (دول المغرب العربي) ومصر والتي يبدو أن الرئيس سعيّد سيزورها في الأيام القادمة لارتباطها برهانات أمنية واقتصادية.
وهناك محاور أخرى على غرار المناطق الأفريقية التي لها علاقة مع دول الخليج العربي، والكنغو الديمقراطية وبوتسوانا، فضلا عن دول الكوت ديفوار ومالي وبوركينا فاسو. ويرى المليكي أن العملية الدبلوماسية عليها أن تخرج إلى هذه الأقاليم، “قصد بناء سياسة خارجية عقلانية قائمة على تصورات وأهداف”.
ولم يخف المليكي سعي بعض أطراف السلطة للانقضاض على ملف السياسة الخارجية في ما يعرف بـ”صراع الصلاحيات”، وسعي رئيس البرلمان راشد الغنوشي لقطع الطريق على الرئيس سعيّد في النشاط الدبلوماسي”.
وظلت مسألة السياسة الخارجية رهينة التصريحات السياسية دون تفعيل يذكر، في ظل التململ السياسي الذي تعيشه تونس من فترة إلى أخرى. وسبق أن أكد الرئيس سعيّد خلال اجتماع عقده في قصر قرطاج مع رؤساء البعثات الدبلوماسية الأفريقية المقيمة بتونس، على وجوب إرساء علاقات تعاون واندماج بين الدول الأفريقية.
وأشار حينها إلى ضرورة تطوير آليات وفرص الشراكة مع الفضاءات الاقتصادية الإقليمية والدولية، في إطار الاحترام المتبادل والندية، بما يتيح الفرصة للمزيد من تعزيز دور القارة الأفريقية في التجارة العالمية، وتحقيق التنمية بما يستجيب للتطلعات المشروعة لشعوب القارة، موضحا أن القارة الأفريقية تزخر بثروات طبيعية وإمكانيات بشرية تجعلها قادرة على أن تكون مفخرة للعالم بأسره.
ومع كل ذلك، يرى متابعون أنه مع ظهور بوادر انفراج سياسي وأمني في
بعض الدول المجاورة إقليميا لتونس على غرار ليبيا، التي زارها الرئيس قيس سعيّد الأسبوع الماضي، بعد تولي حكومة انتقالية جديدة في إطار دعم المسار الديمقراطي في البلد الجار، يُنتظر أن يتحسن مستوى النشاط الدبلوماسي للرئيس والخارجية التونسية في الفترة القادمة، بهدف تعزيز العلاقات التقليدية وبناء أخرى جديدة في القارة.