"الأزلي".. دراما أرجنتينية تطرح رؤية جديدة لنهاية العالم

العمل يرمي إلى نبذ الخلافات وإشاعة السلام لمواجهة أخطار الإبادة.
الاثنين 2025/05/19
أين المهرب من الثلوج القاتلة؟

تضعنا الحياة أحيانا أمام كوارث مفاجئة لم تخطر على بال أحد، كوراث تفتك بآلاف الأرواح، وتتحدى قدرة البشر على النجاة، لكنها تكشف لهم درسا مهما وقاسيا، أن الاتحاد ونبذ الاختلافات ووضع الكراهية جانبا هو من يضمن للبشرية الاستمرار والسلام. هذا ما يؤكده مسلسل "الأزلي" الأرجنتيني، الذي يكشف كيف يمكن للسماء أن تمطر موتا.

القاهرة – كيف يبدو العالم الذي نعيشه في هذه اللحظة بعد تعرضه لكارثة إبادة؟ وما هي السيناريوهات المطروحة لدى القلائل الناجين من هذه الإبادة للتعامل مع مرحلة ما بعد نهاية العالم؟ أسئلة تطرح مخاوف متجددة تسكن الوعي الإنساني الجمعي، أثارت شغف صناع السينما والدراما العالمية وطرحوا من خلالها رؤاهم الإبداعية وتصوراتهم المختلفة والمتباينة لمرحلة ما بعد نهاية العالم.

هذه المخاوف أطلقتها الدراما الأرجنتينة عبر مسلسل “الأزلي” أو El Eternauta باللغة الإسبانية الذي بثته منصة نتفليكس منذ أيام ليحدث إشادات نقدية واسعة ودويا في أوساط المشاهدين ويرتفع خلال أيام قليلة من بثه ليحتل المرتبة الأولى في قائمة المسلسلات الأعلى مشاهدة لفرادة طرحه المغاير لسرديات نهاية العالم التي قدمتها السينما والدراما العالمية وفي القلب منها هوليوود.

سردية أرجنتينة، فاجأت المشاهدين من مختلف دول العالم بتلك التقنيات المتطورة التي اعتادوا على رؤيتها حصريا عبر طبعات هوليوود السينمائية المختلفة صاحبة اليد الطولى في عالم التقنيات السينمائية المتطورة والمتجددة منذ نشأة السينما العالمية.

في مسلسل “الأزلي” زاوجت الدراما الأرجنتينة بين أمرين، فإرادة الطرح الإنساني والتقنية المتطورة قدمتا للدراما العالمية باقة من مبدعيها في مجالات الأداء التمثيلي والكتابة والإخراج الدراميين، إضافة إلى اجتهاد صناع العمل بكل أفراده فيما يشبه خوض معركة تحد حقيقية لتأكيد أنه يمكن صناعة دراما لاتينية متكاملة العناصر تحاول الاقتراب كثيرا من مثيلتيها الأميركية والأوروبية.

ثلوج سامة

ثلوج سامة تتساقط بغزارة من السماء على بوينس آيرس فتقتل كل الأحياء الذين كانوا خارج منازلهم لحظة سقوطها
ثلوج سامة تتساقط بغزارة من السماء على بوينس آيرس فتقتل كل الأحياء الذين كانوا خارج منازلهم لحظة سقوطها

تتناول سرديات نهاية العالم التي تناولتها الأعمال الدرامية والسينمائية الأميركية المختلفة، وفي مقدمتها أفلام: 2012 واليوم التالي واليوم بعد الغد، والعملان الدراميان الكبيران: أخرنا والجنة رؤى، وسيناريوهات كثيرة تقود إلى فناء العالم وإبادة البشرية، وحدوث حروب نووية في هذه الإبادة، أو غليان باطن الأرض، أو سقوط نيازك وشهب فضائية تدمر أشكال الحياة على كوكب الأرض، وغيرها من الأفكار التي طرحتها الأعمال الفنية العالمية.

وهذه المرة يقودنا الطرح الدرامي الأرجنتيني، وتدور أحداثه في عاصمة الأرجنتين بوينس آيرس، حول تساقط ثلوج سامة بغزارة من السماء تقتل كل الأحياء الذين كانوا خارح منازلهم لحظة سقوطها.

ويؤدي السرد الدرامي للمسلسل إلى سؤال مهم، ماذا عن الأحياء الناجين من هذه الكارثة؟ وهؤلاء الأحياء الذين كانوا بمحض الصدفة البحتة قابعين بمنازلهم، يتابعون عبر النوافذ المغلقة تساقط الآلاف من البشر، من ذويهم وأحبائهم، في الشوارع والطرقات.

وعبر افتتاحية تضم عددا من شخصيات العمل، وهم: سالفو وفافالي ولوكاس يتجمعون بمنزل فافالي للعب إحدى ألعاب الورق المحلية، وتشبه نوعا ما لعبة البوكر، بصحبة زوجاتهم ليفاجأوا لدى خروج لوكاس إلى خارج المنزل بغيابه ليجدوه عند إطلالهم من النوافذ المغلقة، ملقى كجثة هامدة أمام المنزل، فضلا عن عشرات الجثث الملقاة وقد غطت الأجواء سحب داكنة، تتساقط منها بغزارة أمطار ثلجية من السماء وانقطاع مفاجئ للتيار الكهربائي وكل وسائل الاتصال، ويعلمون بعد ذلك عبر قدوم أحد الأفراد للاحتماء بمنزل فافالي مرتديا قناعا مخصصا للحرب الكيماوية وأردية ثقيلة تغطيه بالكامل، بأن هذه الثلوج سامة تقتل أي كائن حي تمس جسده على الفور.

يحاول سالفو وفافالي صناعة أردية وأقنعة للوقاية من الثلوج السامة واستخدام سيارة قديمة لا تعمل بالتقنيات الحديثة التي شلتها هذه الأمطار الثلجية السامة مجهولة المصدر وينجحان بالفعل في الخروج سالمين من المنزل، في محاولة مستميتة للتواصل مع الأحياء الباقين للتصدي للكارثة وفك ألغازها.

احتراب أهلي

كارثة طبيعية لم تخطر على بال أحد
كارثة طبيعية لم تخطر على بال أحد

ينتقل العمل الدرامي في هذه المرحلة إلى حالات الفوضى العارمة والاقتتال الأهلي الذي يسود الباقين على قيد الحياة عقب الكارثة والذين تمترسوا خلف جدران الأبنية المغلقة بإحكام شديد في بوينس آيرس، ونعلم بمرور الأحداث أن هذه الثلوج المميتة قد أبادت كل من كانوا في العراء وخارج الأبنية محكمة الإغلاق عند تساقطها، حيث يقود سالفو وفيفالي عملية واسعة وشاقة للغاية لنبذ العنف وإراقة أنهار الدماء لتوحيد الناجين من الإبادة والتوصل إلى تعايش ممكن في ظل هذه الكارثة، وهي محاولات تؤتي ثمارها في نهاية أحداث العمل بعد سقوط المزيد من القتلى المتحاربين على الفوز بغنائم الذين أبادتهم الكارثة.

وتقودنا قصة العمل إلى فلسفة صناعه الكاتبين أرييل ستالتاري وبرونو ستاغنارو، وهو مخرج العمل أيضا، بأنه لا مفر من التلاحم والتعاضد والتعايش بين البشر لمواجهة الأخطار والكوارث التي يصنعها الجشع البشري، والذي تعبر عنه رمزية تساقط ثلوج السامة في العمل. ثلوج سامة مجهولة المصدر للمشاهد. فتارة تقودنا تأويلات المسلسل إلى تسبب حرب نووية بهذه الكارثة أو تسلمنا إلى غزو فضائي يقف وراء إبادة البشر، وتارة أخرى يرينا العمل ظهور حشرات عملاقة تلتهم البشر المتواجدين في العراء.

وكلها تأويلات رمزية دالة على قبح الكراهية والصراعات الوحشية الدموية التي من شأنها إبادة الحياة على كوكب الأرض، ليختتم العمل أحداثه وقد انتهت الكارثة وعادت أشعة الشمس الذهبية إلى الظهور وسط فرحة الناجين وتآزرهم لتضميد جراح الكارثة وخلق عالم جديد يسوده السلام والتعايش يعاد بناؤه على أنقاض الكارثة.

لعب بطولة المسلسل نجوم السينما والدراما الأرجنتينة: ريكاردو دارين وسيزار تروكونسو وكارلا بيترسون، الذين اجتهدوا لتقديم أداء درامي عالي المستوي، في الوقت الذي جاءت فيه أداءات بعض الممثلين في الأدوار المساعدة والثانوية دون المستوى المطلوب، إلا أن براعة صناع العمل حاولت إخفاء الأداءات الدرامية الضعيفة عبر سرعة العودة للتركيز على الأبطال القائمين بتجسيد شخصيات المسلسل الرئيسية بأدائهم البارع وخاصة الفنانين ريكاردو دارين وسيزار تروكونسو.

الموسيقى التصويرية

حخح

أسهمت الموسيقى التصويرية التي وضعها الموسيقار الأرجنتيني العالمي فيديريكو غوس في دور مهم وجاذب، في الوقت الذي قاد فيه كتيبة تصوير المسلسل غاستون جيرود الذي استخدم العديد من زوايا وتقنيات التصوير المتقدمة التي تخدم سردية أحداث ومشاهد العمل، علاوة على الدور المهم الذي لعبته عناصر الإضاءة التي جاءت معتمة أحيانا لتعكس حالة الخوف والذعر التي انتابت شخصيات المسلسل أو خفيفة متدرجة تصل إلى السطوع للدلالة على خروج الشخصيات من نفق الأنانية والاحتراب الأهلي إلى التوافق والتعاضد لتقليل آثار كارثة الإبادة.

نجحت دراما “الأزلي” نجاحا جماهيريا كبيرا، لأنها عبّرت عن الحلم الإنساني العالمي التواق إلى استنشاق نسمات هواء نظيفة وجديدة في عالم يتعاطى مع الاختلافات بين أعراقه وطبقاته بتحضر يليق بالإنسانية، حيث كتب صناع العمل بخطوط عريضة قوية أنه لا مناص من السلام والتعايش بين البشر ونبذ الخلافات الغبية قصيرة النظر والكراهية وغرور القوة كمعطيات وحيدة لاستمرار الجنس البشري.

14