الأدب الفرانكفوني.. انتعاش المركز وبؤس الأطراف

ثمة خلل في اللغة العربية جعل أبناءها يبحثون عن مواطن أخرى.
الجمعة 2022/03/25
اللغة لها أثر في الفن كما لها أثر في الفكر

رغم التراجع الذي تشهده اللغة الفرنسية على المستوى الثقافي في العالم، فإنها لا تزال تمثل طوق نجاة للكثير من الكتاب العرب الذين يهاجر بعضهم إليها طلبا للانتشار وآخرون طلبا للجرأة والحرية في التعبير، إذ صار هؤلاء يرفدون الأدب الفرنسي بأعمال هامة.

ما كان قد خطه كتّاب كثيرون في العالم العربي من مؤلفات باللغة الفرنسية منذ بدايات القرن الماضي.. في أيّ خانة يمكن وضعه؟ وكيف يمكن تصنيفه من حيث الهوية؟ هل هو أدب عربي البيئة والمصدر الإبداعي، اختار اللسان الفرنسي قصدا أو قسرا أم أنه أدب فرنسي بحت، وذلك بصرف النظر عن أصول أصحابه وتوجهاتهم الفكرية والسياسية؟

الإجابة عن هذا التساؤل المشروع لم تستقر على رأي واحد بعد، وإن كان قد تم حسمها لصالح لغة موليير في تنوع مشاربها وغنى روافدها وتلونها خارج القارة الأوروبية وفي فرنسا ما وراء البحار.

تغير أسباب الاختيار

البعض يقول إن فرنسا نجحت في هذا “التضليل الثقافي” واستطاعت أن تجمع كل كتاب اللغة الفرنسية في سلة واحدة وقد غضت البصر عن الحساسيات الفكرية والجمالية على مختلف تناقضاتها، وذلك بفضل توفير السند والرعاية لكل من يكتب بلغتها، حتى وإن كان من أشد معارضيها كدولة لا تخفي نزعتها الكولونيالية بطرق حريرية ناعمة.

لعل أبرز ما يؤيد هذا الرأي هو أقوال مأثورة لكتاب فرانكفونيين كثيرين مثل مولود فرعون، كاتب ياسين ومحمد ديب وغيرهم، من قبيل “الفرنسية غنيمة حرب”، و”الفرنسية منفاي”، و”أكتب بالفرنسية لأعارض المستعمر بلغة يفهمها”.

كان ذلك في سنوات الاستعمار الفرنسي لشمال أفريقيا، وما صاحبها من سنوات جمر كان على مثقفي البلاد التعبير عن هول تأثيرها في النفوس والرؤوس والمصائر والهويات، أما اليوم فلا يبدو استخدام الفرنسية “شرا لا بد منه”، وذلك مع دولة الاستقلال التي حسمت أمرها في إعلان العربية لغة رسمية أولى في المدارس وجميع مؤسسات الدولة، فلماذا إذن، يصرّ الكثير من الكتّاب على اختيارها قصدا وعلانية؟

لماذا الذهاب إلى الفرنسية عن سابق إصرار وترصد، على الرغم من تمكننا من العربية بل وإن البعض يغالب على نفسه ويكتب بالفرنسية بل ويسعى لترجمة كتاباته بهذه اللغة التي أجبر سلفه على استعمالها غصبا عنه؟

الحقيقة أن أسباب اختيار الفرنسية لغة للكتابة لم تعد نفسها، فما كان في الأمس إجباريا، صار اليوم اختياريا، ثم إن المواضيع المطروقة في الرواية على وجه الخصوص، لم تعد هي نفسها. ويتجلى هذا في الرواية الجزائرية تحديدا.

الرواية، هذا الجنس الأدبي الذي قارب القرن من التأسيس والتأصيل في الجزائر دون أن يقطع مع الرواد الفرنسيين الذين عاشوا في شمال أفريقيا حقبة الاستعمار، لم يعد ليهتم بقضايا الثورة، وتخلص من عقدتها بل شُفي منها تماما، وأصبح مشغولا بما هو راهن وأكثر حضورا وإلحاحا في واقع المجتمع المعاصر.

برز مجتمع جديد وقضايا جديدة في أدب ياسمينة خضرا وأمين الزاوي وزينب الأعرج وواسيني الأعرج، رغم أن الأخير يكتب بالعربية أيضا.

ما أردنا قوله هو أن الأدب الفرانكفوني في العالم العربي، وفي بلاد المغرب على وجه التحديد، قد تحولت مواضيعه واهتماماته من قضايا وطنية تحررية تدين الاستعمار وتكشف فظائعه، إلى أدب يهتم بأمراض الفرد والمجتمع بمعزل عن تحميل المسؤولية للمستعمر الفرنسي كما كان السائد زمن الفرانكفونيين الأوائل من الذين ساندوا الثورة ضد المستعمر الفرنسي بلغة فرنسية تكتفي بدور الحامل اللغوي ولا تحيد عن مهمتها كمجرد وسيلة إبلاغ وتعبير.

عرب يبحثون عن لغة غير العربية (لوحة للفنان وليد آغا)

تبدو هذه المفارقة لافتة للانتباه وجديرة بالدراسة، إذ كيف ينتقل الأدب الفرانكفوني في المغرب العربي، من أدب ملتزم بقضايا شعوبه مستخدما الفرنسية كغنيمة حرب، إلى أدب يدير ظهره إلى حقبة الاستعمار ويستخدم الفرنسية عن طيب خاطر في عصر صارت فيه العربية متاحة للجميع، وليس كما كان عليه الحال فترة الاستعمار.

المسألة إذن، تتعلق بخيارات مسؤولة وواعية أي بالسعي لانتزاع موقع في المشهد الثقافي الفرانكفوني، وبطريقة تكشف عن نوع من الاحتفاء والاعتزاز بلغة موليير، بدل لعنها كوسيلة وحيدة ويتيمة لإيصال الصوت.

ضمان الانتشار

الفرنسية لم تعد “صندوق بريد” لا بديل عنه كما كان في الماضي بل صارت مقصدا وخيارا ثقافيا في هذا العصر الذي اتسعت فيه طرق التعبير بالفرنسية أكثر من أيّ وقت مضى.

الواقع أن ثمة دافعا آخر وأكثر عمقا وأهمية من الحديث عن انتشار العربية أو انحصارها أو من التنكر إليها واستبدالها بلغة أكثر عالمية. المسألة يجيب عنها الكاتب المغربي الطاهر بن جلون الحائز على جائزة غونكور بقوله “لم نكن نشك ولو دقيقة واحدة بهويتنا المغربية العربية وثقافتنا الإسلامية ولكننا نعبر عن واقعنا بطريقة أخرى”. ويذكر هذا الكاتب المغربي المشهور بأن “الكُتّاب باللغة الفرنسية يتكلمون بجرأة أكبر. إن الأدب المكتوب باللغة الفرنسية يتوفر على جرأة كبيرة ويعالج مشكلات اجتماعية مهمة مثل الجنس والدين والسياسة والعنف”.

ثمة خلل إذن في اللغة العربية جعلها مهجورة من طرف أبنائها في اتجاه “ميتم لغوي” آخر يوفر لهم الحرية والانتشار قبل أن يكون عشقا وغراما بالفرنسية التي تشكو بدورها، ظلم أبنائها ونزوحهم نحو الأنغلوفونية ضمن ما يعرف بانتشار ظاهرة “الفرانكلونية” أي خطر مزجها بالإنجليزية.

ومع ذلك، يشكو الفرانكفونيون العرب من مشكلة مزدوجة تتعلق بقبولهم، فهم من جهة لا يلتصقون بواقع المجتمع الفرنسي بقدر تمسكهم بواقعهم، ولكن بلغة فرنسية. وكما تقول الباحثة لبنى سلمان فإن هذا الأدب مازال محط جدل ونقاش واسعين. فهو ليس محسوبا على الأدب الفرنسي لأنه مكتوب بلغته فقط، أما الموضوعات فهي بعيدة عن ثقافة هذا البلد وواقعه. وليس محسوبا أيضا على الأدب العربي لأنه ليس مكتوبا بلغته،  فقراؤه ليسوا عربا إلا من امتلك منهم اللغة الفرنسية.

الأدب الفرانكفوني في العالم العربي تحولت مواضيعه من قضايا وطنية إلى أدب يهتم بأمراض الفرد والمجتمع

وكشاهد على “ظلم ذوي القربى” بيّن الكاتب المغربي عبدالكريم غلاب إن “هؤلاء (أي الكتاب الفرانكفونيون) يتمثلون – وهم يكتبون بالفرنسية – الفكر الفرنسي والمجتمع الفرنسي أكثر مما يتمثلون مجتمعهم العربي، لأن اللغة لها أثر في الفن كما لها أثر في الفكر.. وانطلاقا من الرأي القائل بأن الشكل قد يخفي المضمون، فإن الكتابة بالفرنسية قد تحد من مضامين الكتاب، والأدباء العرب الذين يكتبون بها لا يكون لهم التأثير الكافي في إثارة المجتمع”.

قد تكون الفرانكفونية التي يحتفل بها العالم هذه الأيام، وستعقد قمتها في جزيرة جربة التونسية أواخر هذا العام، ليست على أتم ما يرام على المستوى السياسي، لكنها في أوجه قوتها الثقافية بفضل ما يرفدها ويغذيها من كتابات قادمة من الأطراف.. هذه الأطراف التي قدر لها أن تبقى “أطرافا” دون أن تصل إلى مقام المركز.

13