الأخبار العاجلة اليوم ستصبح روايات آسرة في الغد البعيد

الرومانسية أكثر من مجرد طريقة في الكتابة والغناء والتصوير السينمائي.
الخميس 2022/03/10
الرومانسية قدر لا مفر منه (فيلم "المريض الإنجليزي")

بشكل ما صارت الرومانسية في الأدب والفنون عند بعضهم سمة سلبية، تقلل من أهمية العمل الفني وتدرجه في خانة العاطفة، وقد تذهب به أبعد إلى السذاجة، ولكن نظرة أكثر اتزانا لما يقدم اليوم من شعر وروايات وفنون تشكيلية وأغان وأفلام وغيرها، تثبت أن الرومانسية هي المطلب الأساسي من المبدع والجمهور على حد سواء.

يكاد يتفق الدارسون والباحثون على أن الرومانسية في الأدب والفن هي نزعة بشرية أكثر منها مدرسة نقدية، لذلك لن يختفي هذا النزوع الحزين نحو الحب والتوحد مع الطبيعة إلا باختفاء الإنسان.

الآن، وقد صمتت تلك الأصوات التي تدعي الحداثة باسم معاداة الرومانسية والسخرية من الرومانسيين، أصبحت الرومانسية مطلبا بشريا في أزمنة الحروب والنزاعات.

حتى وسائل التواصل الاجتماعي ذات التهافت نحو الشهرة بكل أشكال البحث عن الغرابة، ولو من خلال نشر الإشاعات وفبركة الأكاذيب، أصبحت هي الأخرى تبحث عن الرومانسية ولو باستحضار الماضي تحت مسميات من قبل “الزمن الجميل” و”أيام الأبيض والأسود” وغيرها من أساليب البحث والنكش في الدفاتر القديمة.

كأن الرومانسية قدر لا مفر منه في رحلة الإنسان نحو الخلاص، لا بل أصبحت مطلبا اجتماعيا وشرطا لا مناص منه لدى شركات الإنتاج التلفزيوني والسينمائي.

الحاجة إلى الحب

عشق نقي
عشق النقي

ترى، ما الذي يجعل العالم بأسره يبحث عن ذاك الحنين إلى أزمنة العشق النقي المبلل بالدموع والورود الذابلة وسط صخب الحياة التي تهزها الحروب والنزاعات على إيقاع الثورات الرقمية العاصفة؟

ما الذي يجعل هذا الفضاء الذي لم يعد افتراضيا، يعج بشتى أشكال البحث عن الحلم بالاسترخاء، حتى في مواقع تمارين اليوغا التي تشهد إقبالا كبيرا؟

ما الذي يحول الثورة الرقمية بما لها من سرعة جنونية، إلى ثورة ضد نفسها في بحثها المريب عن كل ما هو خارج “الثورة الرقمية” من قصص حب وأغان وقبلات وشهقات ومواعيد وعذّال وخصوم وغيورين في ذاك الفضاء الرومانسي الساحر، والمسمى بـ”الرومانسية”؟

الغريب هو أن تستخدم التكنولوجيا الحديثة نفسها للبحث عما قبل التكنولوجيا من حالات استرخاء وتشويق وطريق معبدة بالزهور والأشواك.

لم تعوض كل وسائل النقل الحديثة البيسكليت في مشهد عبدالحليم وشادية وأغنية “حاجة غريبة”.

لم تستطع القصص المبتكرة في الخيال العلمي وغيره أن تعوض روائع السينما العالمية والعربية في الزمن الرومانسي، وإن تمكنت من فعل ذلك فبفضل قصة رومانسية ما داخل ذاك الأثر الفني.

واهم من يعتقد أن الرومانسية مجرد موجة سادت ثم بادت، إنها طبيعة بشرية متأصلة لا يمكن أن تموت

واهم من يعتقد أن الرومانسية مجرد موجة سادت ثم بادت. إنها طبيعة بشرية متأصلة لا يمكن لها أن تموت وليست مجرد طريقة في الكتابة والغناء والتصوير السينمائي.

كلما قست الحياة زادت الحاجة إلى الرومانسية وكأنها بمثابة البلسم الشافي والترياق المداوي للجراح والأوجاع.

الحروب واحد من أكبر منغصات الحياة، لذلك كانت الخلفية الأشهر لأشهر القصص الرومانسية منذ حرب طروادة، مرورا بأكبر الملاحم التي خطها الشعراء، ووصولا إلى حرب روسيا على أوكرانيا وقد صورت لنا وكالات الأنباء منذ أيام مشهد عرس مجند ومجندة أوكرانيين وهما يعقدان قرانهما تحت القصف وعلى أنغام موسيقى كنسية.

وما زال الكتاب والسينمائيون يتحفوننا بقصص حب رومانسية وقعت في أهوال الحرب، وكذلك الشأن بالنسبة إلى الرسامين والموسيقيين وغيرهم منذ بيكاسو في الحرب الثانية إلى يومنا هذا.

يكاد يكون الحب توأم الحرب على مر العصور، وتظل الحاجة أم الاختراع والتجديد في خروج الكاميرا من الأستوديوهات إلى الشوارع في إيطاليا ما بعد الفاشية والحرب الكونية الثانية، وذلك على يد أبناء الواقعية الجديدة كفليني وبازوليني وزيفرلي، وكذلك لولوش وغودار في فرنسا.

من يشاهد شريطا مثل “المريض الإنجليزي” الذي صورت أجزاء منه في تونس، سيعلم حتما أن الحب يمكن أن ينتصر على الحرب بل وينهيها لصالحه في لحظة شموخ إنساني لا يضاهى.

الأدب ابن التقلبات

فيلم رومانسي آسر وممتع
فيلم رومانسي آسر وممتع

من يرصد نشوء الرومانسية في العالم العربي عن طريق شعراء مثل خليل مطران وجبران خليل جبران وأبي القاسم الشابي وغيرهم، يتنبه حتما إلى خلفية الحروب الدائرة والتمزق المجتمعي خلال فترة ما بين الحربين.

وفي هذا الصدد ينبه الناقد حماد صبح في معرض تحليله لقصيدة “الزنبقة الذاوية” التي كتبها الشابي في عشرينات القرن الماضي، إلى وجوب الاتحاد بين الناس أنفسهم، وإلى مقاومة العزلة النفسية التي خلقتها وسائل الاتصال الحديثة على جلال نفعها في نواحٍ أخرى جمة.

ويضيف “من خلال ما أقرؤه في مواقع الشعر الإنجليزي والفرنسي أطلع على وفرة شعر الطبيعة فيها من القديم ومما يكتب في الوقت الماثل، وتفرد زوايا لشعر الفصول الأربعة، وبالمناظرة، أشهد ندرة قاحلة لشعر الطبيعة في مواقع الأدب والشعر العربي”.

تمسك الإنسان بالحلم والرغبة في الحياة يجعله رومانسيا، وذلك على عكس ما يتصور البعض، ولنا في التاريخ القديم والحديث أوضح الأمثلة وأكثرها سطوعا، ذلك أن الحياة الوديعة الساكنة لا يمكنها أن تصنع أدبا جيدا. وهذا أمر لا نستسيغه، لكنه واقع مثبت بالحجة والدليل.

سوف يغرف الأدب القادم من هذا العالم المتقلب والمجنون، وسوف ينتج أعمالا في غاية الروعة والجمال، و”للأسف الشديد” الكلمة التي نقولها اليوم على مضض، لكن الجيل الذي سوف يأتي سيستمتع بأدب رفيع أنتجته أزماتنا في الواقع الراهن.

قادة الحرب وحدهم يكرهون قصص الحب ويزدرون العشاق والرومانسيين كقول نابليون بأن “الحب هو تبادل البلاهة بين اثنين”. وربما بسبب خيبة قصة حبه مع جوزيفين قال الإمبراطور الفرنسي هذه الكلمة، ذلك أن أغلب قادة الحرب أنفسهم كانوا من العشاق، ولكن ضلوا طريقهم.

ما نشاهده اليوم على شاشات القنوات الإخبارية من تقارير تتحدث عن هول ما يحدث، لن يكون في الغد البعيد على شكل شريط “أخبار عاجلة” بل سيصبح روايات وأفلاما رومانسية آسرة وممتعة.

13