الآن وهنا وتفاصيل اليوم القبيحة هي الشعر

الشاعر السوري أحمد م. أحمد يكوّن الشعر ويراوده عن نفسه في ديوانه “أحرق سفنه إلا نعشا” الصادر عن دار أوراد في طبعته الثالثة هذا العام، إذ نراه ينتهك المقدس والتابو جاعلا النص يستفزّ الشعر ذاته، ويكسح بكارة العالم لسقاية بذور الشرّ كي تكبر مسوخا تنهب صورته الباهتة.
كنص التعويذة أو الرقية التي تستخدم لتغيير الفرد أو الكون نرى أحمد م. أحمد يكتب نصه الأول بعنوان Dramatis persona لنرى تكثيفا لعناصر الواقع إلى جانب الخيال عوضا عن الآيات المقدسة، ثم نراه يحضر اسما ضمن النص لتكتمل صيغة التعويذة التي يذكر فيها لفظ الجلالة عادة إلا أن أحمد يحضر هنا بوصفه الشاعر/ العارف الذي سيأسر الآخر بقصيدته هذه أو الآخر سيستخدمها ليتحرر أو ينعتق مما هو حاضر “مسيح دجال وأتقياء ومجازر وظهورات ونشور/ أنبياء وصحارى وهذيانات/ أعضاء تناسليّة/ طوائف ضفادع/ صراصير وجعلان/ أحمد م. أحمـ../ وتجليات أخرى سترد في سياق سوف لن تأتي…”.
شعرية أحمد تنبع من الانتهاك، من تأسيسه لحضور قائم على تجاوز ما هو معتاد ليغدو الشعر موقفا صداميا مع العالم، إذ يقتحم ما حوله ثم يتأمل نفسه وهي تتداعى والكون من حولها، فالمكان ينقسم وينتقل بين الداخل والخارج، أما الزمان فهو حاضر دائما كهيولي يسبح فيها الشاعر لينتقل بين الآن ولاحقا، راسما تفاصيل يومية، تعكس بهتان الكون الذي خذل الشاعر/ المشعوذ فقرر أن يلقي بسحره عليه ليمسخه “رياح الخماسين/ مع الأرغفة الساخنة/ المنشورة على بوابات الصباح، علاج ناجع من مليشيات القهر”.
نصوص أحمد أقرب إلى العاصفة الشعرية التي تقتلع كل شيء من جذوره، تفككه، تحاكمه ثم ترميه بعيدا، حتى حضور الجنس هو أقرب لالتهام اللحم للحم بمجرد لمسه أو إلقاء التعويذة- القصيدة عليه، لنرى الشبق يحضر ملتهما الأجساد تاركا علامات فارقة عليها، وكأنّ أحمد بتعامله مع الجسد يشعله ثم يتركه رمادا، لتنبعث منه أنثى جديدة معادة التكوين مختلطة بجراح الشاعر التي تقتل ثم تبعث كتعويذة ألقيت على “أليعازر” ليبعث من جديد.
|
أشبه بساحر ينساب الشعر من أحمد ليلقي بوطأته على ما حوله، الأنثى، الوطن التفاصيل اليومية، كلها تدخل ضمن الترياق الشعري المكثف الذي يخطف من يتعاطاه، أقرب إلى شعلة من خمر أو نبيذ تنتهك العقل، جوهر هذا الترياق هو الشاعر نفسه، حيث يخضع نفسه للمحاكمة، يتأملها وهي تنساب وتتغير ثم تواجه ذلك الآخر بكل أسلحتها التي على بذاءتها وتهتكها أحيانا تمثل اللاحلم، الواقع القادر على مجابهة الرومانسية، فلا مكان للحلم، الآن وهنا وتفاصيل اليوم القبيحة هي الشعر.
أحمد م. أحمد لم يختر الشعر، لم يقرر أن يكتب قصيدة، بل فاض الشعر عن ذاته وعصف بما حولها ثم توجه نحو الآخر حليف الموت الذي لا يأبه أحمد لحضوره، بل يراه مبتذلا لا يشبه الموت لكن، فجأة، كأن التعويذة انقلبت عليه، وكأن فيضان الشعر أغرق الشاعر نفسه فتوجه لانتهاك هذه الذات وتفتيتها، ثم لتنتشر بين حنايا المكان، لتصبح رحلة الشاعر هي بحث عن ذاته المنتهكة، لا مواجهة للكون الذي أزّمها وذلك في نص بعنوان “سيرة موجزة لـ :أ م أ” حيث يهبّ الشاعر لكتابة سيرته، يختلط فيها الواقعي مع الخيالي، وتتفتح الرغبات الدفينة لديه بالأنثى، ليفكك قدسية الجسد المؤنث، ثم ينتحله لتتداخل الخلايا بالخلايا، يقول “فائض عن الحاجة/ كقميص شفاف/ فوق نهدين”.
لنرى الشعر بعدها ينفلت من هذه السيرة المحطمة ويجتاح المرأة ودوائرها، لتبدو الرغبة أقرب للافتراس، تدمير للمتخيل على حساب الواقعي بعيوبه يقول “عند تخومِ الميتة/ السادسة والأربعين. وكانت الحروف جارحة كغياب/ فخذيك عن التماعة الملح على صخور الشاطئ/ في ذلك الدبق الأليف أسريتِ بي إليكِ، ثم/ أسررتِ إليّ : أشتهيكَ،/ ويظللني اسمك حتى المسيل،/ وينطق جنين اللهاث/ في راحتيك، وأرى/ الميتات تتهادى نحوي/ كفرسان ذلك النهر”.
تحضر الكائنات بأنواعها في الديوان، البغال، العناكب، الخيول والغزلان، كلها تتوالف لتمسخ الأنا في واحد منها، تحادثها أو تتركها أو تكتسب صفاتها ومزاجيتها في محاولة للتحول وإيجاد أسئلة للأجوبة، الحقيقة موجودة واضحة أمام الشاعر، المحنة في السؤال، لماذا يحصل ما يحصل، وحين يحار في الجواب نراه يتوجه إلى الآخر، يقدم له النص بصيغة التوبيخ “كُنْ مؤمنا كذئب فتيّ يصغي إلى نصيحةِ الخَصيّ/ يعيد رصف أوجاعك، وأنت تهزّ رأسك، وعيناك/ تقولان بعيد الينابيع./ كُنْ رسما درس، ابنا بلا آباء، نهرا بلا مصبّ،/ هجينا بلا جِنس./ اعشق العاهرة وقدّسها ./ دسْ روث الأوّلين،/لا تنتظر عال الكلمات./ اهرَمْ والدّمعة”.