الآليات القديمة لا تحقّق التجديد

قدّم مهرجان الأغنية التونسية في سنوات أوجه، أواسط ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته، أغنيات ظلت عالقة في ذاكرة عشاق الطرب كـ"صرخة" لصابر الرباعي و"همس الموج" لمنية البجاوي "وغدّار" للشاذلي الحاجي وغيرها. لتسكت الألحان وتتحجّر الكلمات وتتغيّر تسميات المهرجان ويخفت بريقه لسنوات، وها هو يعود اليوم باسمه القديم في ثوب جديد، فما الذي تغيّر؟
أخيرا، وبعد طول شدّ وجذب ولغط، عقدت الهيئة المديرة لمهرجان الأغنية التونسية في دورته العشرين لقاء إعلاميا للكشف عن نتائج انتقاء الملفات المرشحة للمشاركة في نسختها الجديدة، ومراحل التحضير للفعاليات التي انطلقت باجتماعات داخل جميع المحافظات التونسية مع فنانين وفاعلين في المشهد الموسيقي والثقافي، وذلك من 30 مارس الجاري إلى غاية 3 أبريل المقبل.
يبدأ هذا الجدل في أصل تسمية المهرجان وتحت أي عنوان يستقر المنظمون، وينتهي عند جدواه، والسؤال عن فائدته وسط جائحة عزّزت فاعلية المنصات الإلكترونية وطرحتها بديلا حقيقيا ودائما للتجمعات الاحتفالية التي تكثر فيها الجلبة ويقل فيها التركيز، بالإضافة إلى هول ما يُنفق وسط عثرات تنظيمية وهفوات تحكيمية.
بين إشعاع وخفوت
ما الذي يشتكي منه اليوتيوب، مثلا، كبديل لأعتى المنظمين والمشرفين على مهرجانات تحتفي بالفوضى والزحام، وإضاعة الوقت. يأتيك المهرجان صوتا وصورة ونتائج، وأنت جالس في صالون بيتك أو مستلق على فراشك دون كمامات وحاجة إلى التباعد الجسدي في زمن كورونا التي أرست ثقافة جديدة في التفرّج والمتابعة، لا نظنها تزول مع زوال السبب.
لنعد إلى هذا المهرجان الذي تأسّس عام 1986 في العاصمة تونس، وظل يقام في شهر مارس من كل عام، توافقا مع الشهر الذي يحتفل فيه العالم بالموسيقى، أرقى اللغات وأمتن جسور التواصل بين الناس. لكن هذا المولود الفني الذي لم يعد يحبو، ورفد مواهب عديدة على الساحة الموسيقية والغنائية، تلكأ وارتبك مرات عديدة في الاسم والموعد، ومدى المصداقية في احتضان مختلف الأصوات الواعدة.
ولد المهرجان تحت مسمى “مهرجان الأغنية التونسية” ليتغيّر بعدها إلى “مهرجان الموسيقى التونسية” ليشمل الأغاني والمعزوفات على السواء، ثم تحوّل عام 2010 إلى “أيام قرطاج الموسيقية” تيمنا بـ”ترويسة” أيام قرطاج السينمائية والمسرحية، وحتى الشعرية والكوريغرافية في ما بعد، وكأن كلمة “أيام” حكر على تسمية كل نشاط فني في تونس، إلى درجة أن بلدانا عربية كثيرة قد انتقلت إليها العدوى وصارت تنسج على منوال تونس، البلد العريق في إقامة المهرجانات منذ مؤسّس وزارة الثقافة التونسية عام 1961، الراحل الشاذلي القليبي، والذي سميت مدينة الثقافة التي سوف يقام فيها المهرجان باسمه، تكريما وعرفانا لهذا الرجل وعطاءاته.

انطلاق التحضيرات لفعاليّات مهرجان الاغنية التونسية في دورته العشرين
وبعد انقطاع 13 عاما، يعود مهرجان الأغنية التونسية في حلة جديدة قاطعا الشك باليقين، كما يؤكّد مدير الدورة الحالية، المطرب التونسي شكري بوزيان “بمشاركة أكثر من 40 فنانا تونسيا سيؤدّون 35 أغنية تتمثل في مسابقات الأغنية الوترية، والإبداع الحر وجائزة ‘منور صمادح’ (1931ـ1998) للأغنية الملتزمة، وأحسن أغنية مصوّرة فيديو كليب”.
يبدو الأمر، وإلى هذا الحد، مقبولا ويدعو إلى التفاؤل بواقع ومستقبل الأغنية التونسية، إذا وضعنا في الاعتبار أن المهرجان قد سبق له التوقف بذريعة عدم وجود أغان تونسية جديدة، وتحت حجة أن أغلب الفنانين في الوقت الراهن، أصبحوا يعتمدون على إعادة الأغاني التراثية والفلكلورية. ولكن واقع المشهد الغنائي العربي، يقرّ بأن الأصوات التونسية تنافس دائما على الصدارة في جميع المسابقات والبرامج التلفزيونية الغنائية على شاكلة “ذي فويس” في قناة “أم. بي.سي” العربية.
هذا التميز في الأصوات التونسية الذي باتت تحسب له لجان التحكيم، وكذلك المتنافسون، ألف حساب، لم يكن اعتباطيا، ولا رمية دون رام، بل جاء نتيجة تراكم كم من الخبرات والمدارس الغنائية التي أسّس لها فنانون منذ أوائل القرن الماضي.
وتشبّث هؤلاء بالأصول والمنابع دون أن يتنازلوا عن القيم الفنية والجمالية للمؤدّين والعازفين، وذلك برعاية ودعم من جهات رسمية نافذة على شاكلة المدرسة الرشيدية التي تأسّست سنة 1934 بغية إحياء وتطوير الإرث الموسيقي، وذلك على يد ثلة من المثقفين التونسيين، أرادوا حفظ الذاكرة الوطنية من هجمات الفرنسة والتذويب زمن الاستعمار الفرنسي.
ورب ضارة نافعة، كما يقال، فإن غياب أو الشحّ في وجود الشركات الموسيقية المتخصّصة في التسويق للمطربين بقصد غايات تجارية بحتة، قد مكّن المغنين والعازفين وعموم أهل المهنة، من المحافظة على درجة عالية ومحترمة من الأداء، وذلك على عكس مصر وبلاد الشام التي بدأت فيها فنون العزف والغناء بالانحدار نتيجة انخراطها في منطق السوق ولغة العرض والطلب.
قدامة تتجدّد
الغريب أن “غياب الجديد” الذي تذرّعت به الجهات التي أوقفت مهرجان الأغنية في تونس طيلة 13 عاما، كان حارسا وحافظا للذائقة الفنية من الإسفاف والسقوط في المبتذل والمسوّق والمروّج، فكأنما التشبّث بالتراث الكلاسيكي والفلكلوري و”عدم المغامرة بالابتداع”، قد أنقذ الأغنية التونسية من الإسفاف، وانتصر لمقولة “الجيد يبطأ في المجيء دائما”.
اليوتيوب وغيره من منصات التواصل الاجتماعي التي باتت حاملا حقيقيا لأي حدث فني وثقافي، لا يفسد للود قضية، ولا يضرّ بأي احتفالية جماهيرية بل يخدمها على مستويات عديدة بما في ذلك المتابعة والانتشار، فلماذا يتوجّس منه بعض عشاق “القدامة” والمنظرين لها باسم “الطابع المؤنسن” للمهرجان وضرورة التواصل من خلال الحس الاجتماعي والتواصل المادي المباشر؟
المنعشون لجسد مهرجان الأغنية التونسية، يريدون استعادة بريق التظاهرة بأدوات تقليدية تجانب منطق العصر
كل ما في الأمر أنه استمرار تاريخي وتطوير عصري لتلك الفرق الغنائية الجوالة التي كانت تطوف المدن والقرى في سبيل إيصال إنتاجها في الأزمنة الغابرة على شاكلة “التروبادور” أو “الشعراء الجوالون” في إسبانيا. الآن وقد مكنتنا منصات التواصل من التحلّق حول شاشة واحدة -وكل في بيته- فلماذا نرفضها ونسعى للزحام.. وما أدراك ما الزحام في زمن كورونا.
إذا كان المشرفون والمنعشون لجسد مهرجان الأغنية التونسية هذا العام، يريدون استعادة بريق هذه التظاهرة الكبيرة ويخشون عليها من الاندثار، فلماذا يريدون بعثها بأدوات تقليدية تجانب منطق العصر؟ دعوا اليوتيوب ومشتقاته يتكفل بالأمر، وسوف يفضي إلى نتائج أكثر فاعلية من نظيراتها السابقة.
وفي حديثه عن تسيير مهرجان الأغنية التونسية ، قال مدير “المؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية” يوسف الأشخم، إن المؤسسة “تتعهّد بتوفير كل الوسائل المتاحة لإنجاح المهرجان الذي تحمل عودته تحدّيا”.. أليس أفضل وسائل إنجاحه هو أن لا تقيمه بشكله التقليدي المعهود؟