استسهال الإنجاب يعكس التمرد الأسري على خطط الحكومة في مصر

لم تجد إجراءات الحكومة المصرية نفعا في التقليص من الإنجاب ذلك أن قناعة الأسر بأن الرزق من الخالق وليس من الحكومة جعلها تستسهله. كما أن الخطاب الرسمي المرتبط بالتوعية من مخاطر كثرة الإنجاب لم ينزل إلى مستوى الموجودين في المناطق الريفية والقبلية والشعبية التي تتعامل مع كثرة عدد الأبناء كمصدر رزق.
القاهرة - عكست إحصائية أعلنها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في مصر (جهة حكومية) قبل أيام حول إنجاب المصريين لمليون طفل في تسعة أشهر فقط، حجم التمرد الأسري ضد خطط الحكومة التي لم تترك بابا إلا وطرقته لإقناع الأهالي بحتمية تنظيم النسل والكف عن استسهال الإنجاب، وتنوعت رؤاها بين الترغيب والترهيب.
استخدمت الحكومة الكثير من الأسلحة لمواجهة الانفجار السكاني بعدما صنفته بأنه أخطر من الإرهاب، فلجأت لفرض عقوبات على كثرة الإنجاب، وتقديم مزايا مادية للملتزمين بتنظيمه، ووظفت فتاوى المؤسسة الدينية لتأييد كل الخطوات الرسمية التي تبنتها الحكومة، لكن جاءت النتائج مغايرة تماما لما فعلته.
وعندما لجأت إلى فرض عقوبات على الأسر التي تحرم بناتها من التعليم أو تزوجهن مبكرا لم تستجب الأغلبية واستمر زواج القاصرات أمام اقتناع الكثير من الأهالي بأن “سُترة” الفتاة (زواجها) من الأوامر الدينية التي دعا إليها الإسلام، حتى باتت الكثير من الأمهات بلا تعليم ولا وعي أسري، ويكرسن حياتهن للإنجاب.

عمرو حسن: قناعة الأسر بأن الرزق من الخالق جعلها تستسهل الإنجاب
ما زال الخطاب الرسمي المرتبط بالتوعية من مخاطر كثرة الإنجاب يستهدف شريحة بعينها من الأسر ولا ينزل إلى مستوى الموجودين في المناطق الريفية والقبلية والشعبية التي تتعامل مع كثرة عدد الأبناء باعتبارها “عزوة”، وأن تحديد النسل أو تنظيمه مخالف للشرع، ما يمثل تحديا بالغا لخطط الحكومة.
ولا تعرف الأسر التي تعيش في المناطق الأكثر إنجابا شيئا تقريبا عن خطط الحكومة في مواجهة الانفجار السكاني، ولا تستوعب كلامها، وتصدق فقط أئمة المساجد والشيوخ الذين يحتكون بالشارع أكثر من العناصر العاملة في مجال تنظيم الأسرة، حتى أصبحت هناك فجوة بين الحكومة والسكان في فضاء تنظيم النسل.
تكتفي الكثير من المؤسسات الرسمية بالدعوة إلى تنظيم الأسرة دون إقناع الأهالي بأن المعتقد الديني حول كثرة الإنجاب ارتبط بأحاديث وتفسيرات تزامنت مع أحوال وأوضاع المسلمين قديما، ولم تعد تصلح لهذا العصر، لأن الظروف تغيرت، ومن شأن استمرار هذا الوضع أن يؤدي لتفكيك الأسر ويعم الفقر وهو ما يرفضه الإسلام.وطالما ركزت جهود الحكومة على الآباء والأجداد فسعيها لمواجهة الزيادة السكانية لن يجدي نفعا، وعليها أن توجه خطابا خاصا إلى الأبناء (ذكورا وإناث)، لأن هؤلاء ما زالوا يحصلون على معلوماتهم بشأن الإنجاب من أرباب الأسر، وبذات الأفكار القديمة التي تحثهم على زيادة النسل وترك الأرزاق على الله حتى أصبح تنظيم الأسرة من المحرمات لدى البعض.
يصعب فصل أوجه القصور في الخطط الرسمية عن التركيز على الزوجة في شأن تنظيم الأسرة وإغفال الرجل، وهو المفترض أن يكون المستهدف الأول باعتباره صاحب قرار الإنجاب في المناطق التي تقدس العادات والتقاليد والأعراف، ويحدد متى تنجب زوجته ومتى تتوقف، وما زالت المرأة في هذه المناطق منزوعة القرار.
قالت نهى محمد، التي أنجبت ستة فتيات بإحدى قرى محافظة البحيرة، شمال القاهرة، إن زوجها أجبرها على الحمل مجددا لأنه بحاجة إلى طفل ذكر يرثه ويحمل اسمه، رغم اقتناعها الكامل بأنه لا فرق بين الولد والبنت، لكن الرجل في المجتمع الشرقي يحب الذكور، بالتالي لا قيمة لاقتناع الزوجة بتنظيم الأسرة دون قناعة الرجل أولا.
وأضافت الأم لـ”العرب” أن الزوجة المصرية مغلوبة على أمرها، ومطالبة بالاختيار بين تنظيم الأسرة والحد من الإنجاب، وبين الالتزام بالعادات والتقاليد في إرضاء الزوج ما يفرض على الحكومة أن تخصص حملات للرجال لتوعيتهم وتغيير قناعاتهم حول كون كثرة الإنجاب لا يعكس فحولة أوخصوبة، وإقناعهم بأن زيادة الأبناء خطر على جميع أفراد الأسرة.
عندما طرقت الحكومة أبواب القرى والنجوع والمناطق المهمشة المصنفة بأنها الأكثر إنجابا وضاعفت مراكز تنظيم الأسرة فيها، استعانت بأطباء ذكور للتحدث مع الزوجات لندرة الطبيبات العاملات في الأماكن النائية، في حين أن الأعراف تحرّم على السيدات هناك الحديث مع رجل غريب في قضية حساسة مثل الجنس والإنجاب.
وسألت “العرب”، أحمد سعيد وهو حارس عقار يقيم في القاهرة، من أصول صعيدية (من جنوب مصر) حول عدم ذهاب زوجته إلى مركز تنظيم الأسرة بدلا من إنجاب سبعة أبناء، أجاب باستنكار “لو فعلت ذلك فإن العار سوف يطاردها، ثم أنها لا تملك قرار الإنجاب لأنني من يقرر ذلك”، ثم ابتسم وقال إنها “حامل في الطفل السابع”.
وأوضح الأب “إذا كانت الحكومة تقول إن الزيادة السكانية خطر على التنمية فأغلب الشغوفين بزيادة معدلات الإنجاب يتعاملون مع كثرة الأبناء باعتباره مصدرا للرزق وتعظيم لموارد الأسرة، وهؤلاء لن يختاروا مصلحة الحكومة على حساب مصالحهم الأسرية، لأن عمل الأبناء في الحرف والمهن يزيد العوائد الاقتصادية للعائلة”.
وطالما استمرت هذه القناعات فالتمرد الأسري لن يتوقف، لأن الناس تشعر بأن التوجه الحكومي في زيادة معدلات التقشف ورفع الأسعار يقود الأهالي لحتمية خفض الإنجاب، كما أن اتجاهها لخفض الدعم ليتم تقديمه للأسر التي تنجب طفلين فقط كإجراء عقابي قد تكون له انعكاسات سلبية بزيادة معدلات الجهل، ومضاعفة زواج القاصرات وما يتمخض عنه من مشكلات.
أكد عمرو حسن مقرر المجلس القومي للسكان بالحكومة المصرية سابقا أن سياسة الترهيب لن تجدي نفعا مع أغلب الأسر التي تستسهل الإنجاب لقناعات دينية واقتصادية ومجتمعية وثقافات توارثها الأجيال من الأجداد القدامى، وهذه بحاجة إلى جهود كبيرة عبر مسارات متعددة، والأهم تقديم حوافز للأسر التي تنظر إلى الإنجاب كسند اقتصادي.
وتقتنع شريحة كبيرة من أرباب الأسر بأن ربط الحكومة الزيادة السكانية بضعف معدلات التنمية وزيادة الفقر يعكس إخفاقها في وضع خطة عملية، لأن نفس معدلات الزيادة تبدو قريبة مما كانت عليه مصر في حقبتي الثمانينات والتسعينات، ولم يكن عدد السكان عائقا أمام الطفرة الاقتصادية، وكانت سياسات الحكومة تستوعب الزيادة السكانية بشكل معقول.
وأشار عمرو حسن لـ”العرب” إلى أن قناعة الأسر التامة بأن الرزق من الخالق وليس الحكومة جعلها تستسهل الإنجاب وتسريب الأبناء من التعليم والاستفادة منهم في أعمال حرفية وزراعية، كما ترفض هذه الأسر تدخل المؤسسات الرسمية لتغيير ثقافة العزوة، ما يؤكد الحاجة إلى التحرك في مسارات جديدة مع ارتفاع معدلات الأمية.
واقترح حسن أن يتم التركيز على تثقيف الشباب تحديدا بمزايا خفض الإنجاب، على الأقل لقطع الطريق على المتشددين الذين أقنعوا الناس بأن تنظيم الأسرة حرام واعتداء على إرادة الله، على أن تكون المناهج التعليمية في المدارس والجامعات مسؤولة عن تغيير هذه الثقافة، وعدم ربط كثرة الأبناء بدعم اقتصاد الأسرة، وأن الإسلام بريء من ثقافة التباهي بكثرة الأبناء.
من شأن الاهتمام بتوعية الأجيال الصاعدة باعتبار أن من بينهم سيكون هناك أرباب أسر المستقبل أن يؤدي إلى استمالتهم بعيدا عن الميراث الأسري القديم بشأن الإنجاب، لأن الاكتفاء بإباحة تنظيم الأسرة عبر فتاوى عقلانية لن يصلح ما أفسده البعض، كما أن الفتاوى الرسمية حول النسل لا تصل إلى الأميين، والحل في ممارسة التوعية عبر المسار التعليمي.