احتفاء بالتونسي علي البقلوطي

الولايات المتحدة دولة صناعية متقدمة. ربحت الحرب العالمية الثانية على جبهتي أوروبا، ضد ألمانيا، وآسيا، ضد اليابان، لأنها كانت قادرة على التفوق صناعيا على دولتين عظميين آنذاك. انتهت الحرب وشعرت أميركا بالفخر. ما إن مرت سنوات قليلة حتى أصيبت بنكسة نفسية كبرى، عندما تمكن الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت من إرسال قمر صناعي إلى الفضاء، ثم الكلبة لايكا، وبعدها الرائد يوري غاغارين. سأل الأميركيون أنفسهم: هل سنخسر الحرب الباردة؟ كان ذلك واردا. لكن كما نعرف أن هذا لم يحدث. لم يربح الأميركيون الحرب الباردة فقط لأنهم كانوا قوة صناعية ومالية وسياسية كبرى، بل لأنهم انتبهوا إلى أن العصر يحتاج إلى تطوير أدوات العلم، وفي المقدمة كانت الرياضيات. أواخر الخمسينات من القرن الماضي أطلق الأميركيون مشروعات قومية لدعم تعليم الرياضيات والفيزياء في المدارس أولا، وفي الجامعات، وتشجيع البحوث النظرية التي قد تمهد لاختراقات تكنولوجية. بحوث جعلت من الممكن إرسال رائد فضاء ليهبط على القمر ويعود في صيف عام 1969.
البحوث النظرية في الرياضيات قد تضع موضوعات بعناوين مثل "التحليل التوافقي غير التبادلي" و"نظرية تمثيل الزمر" و"مشاكل التشوه في الهندسة" في صلب الاهتمام، رغم أنها غير مفهومة للكثيرين. لدي معرفة معقولة في الرياضيات، لكن هذه عناوين تبدو ثقيلة علي. غير أنّي، بحكم القياس والخبرة، أدرك أهميتها. على مثل هذه العناوين وغيرها بعشرات الألوف من تفرعات علم الرياضيات، قام العالم الحديث.
أول ما تسمعه من أغلب من تلتقي بهم أنهم لم يستفيدوا من الرياضيات التي تعلموها في المدارس. هذا كلام لا يقوله الطالب في مدرسة عربية وحسب، بل يتردد حتى في مدارس الغرب. ومن هنا تأتي قلة الاهتمام بالرياضيات، وتتراجع معدلات المقبلين على دراستها، وهو ما يخلق أزمة ثانوية هي قلة أساتذة تدريس مادة الرياضيات في المدارس، بل وفي الجامعات.
لو أنصتت الولايات المتحدة للتساؤل: بماذا ستفيدنا الرياضيات؟ لما تمكنت من الوصول إلى القمر، ومن ثم قيادة الثورة التكنولوجية العالمية. اذهب إلى كتب التاريخ الحديثة لفهم كيف صعدت دول مثل ماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية والصين، فستجد إصرارا على الاهتمام بتدريس العلوم، وبالخصوص الرياضيات. الغرب، الأوروبي والأميركي والأسترالي، تقدم بسبب قيام بنية تحتية علمية وتكنولوجية أساسها الاستثمار في تدريس الرياضيات.
الآن، لماذا اخترت موضوعات "التحليل التوافقي غير التبادلي" و"نظرية تمثيل الزمر" و"مشاكل التشوه في الهندسة" كأمثلة؟ السبب بسيط؛ أريد الاحتفاء بالبروفيسور علي البقلوطي من جامعة صفاقس في تونس. لقد فاز للتو بجائزة "فايزر" العلمية المرموقة والمخصصة من الجمعية الملكية البريطانية لأفريقيا. البقلوطي، بالتأكيد، لم يسأل نفسه: ما فائدة تدريس الرياضيات؟ وذهب بعيدا في إتقان أدوات هذا العلم إلى درجة الفوز بجائزة عالمية. اختيار أستاذنا التونسي لهذه الموضوعات التي يصعب على كثيرين فهمها، دليل على أن ما يبدو غير مفيد للبعض، يعد بابا للفتوحات العلمية لدى البعض الآخر. هكذا جلس العالم البابلي قبل آلاف السنين وهو يضع أسس علم المثلثات وجداول عرفت لاحقا بنظرية فيثاغورس اليوناني. في مصر القديمة، كان هناك من يدرس الرياضيات وسط بيئة فلاحين وكسبة مكنته لاحقا من بناء الأهرامات.