اتحاد الشغل التونسي: من يعيده إلى حجمه الطبيعي

يعيش اتحاد الشغل مرحلة مهمة وحساسة سيتحدد على ضوئها دوره وتأثيره في المرحلة القادمة التي لن تكون بأيّ حال شبيهة بالعشرية الماضية، عشرية استعراض القوة على الحكومات المتتالية وإغراق البلاد بالإضرابات العامة والقطاعية ودفع الجميع إلى الهرولة لكسب وده.
لا شك أن قوة الاتحاد وقتها كانت بالأساس ناجمة عن ضعف تلك الحكومات وعدم إدراكها لطبيعة الحكم وتشابكاته وتفضيلها البقاء في السلطة على مواجهة تفرض على مختلف الفاعلين احترامها.. الوضع الآن تغير تماما، فالحكومة ليست ضعيفة حتى وإن كانت متعثرة وبطيئة في فهم الملفات بسبب كثرة التعقيدات والضغوط والملفات التي تحتاج إلى إجابات سريعة. كما أن هذه الحكومة لا تتصرف وكأنها الفاتق الناطق كما كان يحدث سابقا، ولا يمكنها أن تعقد اتفاقيات تحت الضغط ولا تقديم تنازلات مذلة للدولة مقابل نجاتها هي والأحزاب التي تقودها.
حكومة نجلاء بودن، وبالرغم من محاولات الاتحاد إظهارها في موقف ضعيف من خلال تصريحات بعض قيادييه، إلا أنها لم تسع لكسب وده أو ود أيّ طرف اجتماعي ولم تمض أيّ اتفاق تحت الضغط مقابل “انفراجة اجتماعية” مزيفة. والسبب الرئيسي لكل هذا أنها مسنودة بالرئيس قيس سعيد وتتحرك وفق مقومات شخصيته التي ترفض الرضوخ للضغوط من أيّ جهة كانت، وأن أفضل طريق للوصول إليه هو التواضع والتفكير بروح الجماعة، وهذه هي الرسالة التي بدأ يستوعبها قادة الاتحاد.
تراجعت التصريحات التي تتسم بنفخ الريش والتطاوس والتعالي تحت يافطة “الاتحاد أكبر قوة في البلاد”، حتى وإن استمر الخطاب المخاتل الذي يظهر من جانب الرغبة في التعاون والتفاوض ومن أخرى التلويح بالتصعيد والإضراب. وهي ازدواجية معروفة، وتظهر الضعف أكثر منه إتقان المناورة.
بالرغم من أن الطبوبي سعى للنأي بنفسه عن منظومة ما قبل 25 يوليو، ورسم خط ثالث، لكنه وقف عمليا إلى جانب تلك المنظومة خاصة من خلال الإضراب الذي سبق الاستفتاء على الدستور
واضح من التوقيع على الاتفاق مع الحكومة واتحاد رجال الأعمال، أن الاتحاد فهم أن لعبة مد الحبل وجذبه إذا استمرت أكثر من اللازم قد تتركه بلا دور، وأن قيس سعيد قد يهمله تماما كما أهمل الأحزاب البعيدة عنه والقريبة منه، فهذا الرجل ينظر دائما إلى الأمام، وينفّذ ما يفكر به دون استغراق في المخاوف من العقبات أو التحذيرات أو التدخلات الخارجية التي كان خصومه يعلقون عليها آمالهم إلى آخر لحظة.
لم يكن التوقيع على “العقد الاجتماعي” كما سمته الحكومة خيارا مريحا لأمين عام اتحاد الشغل نورالدين الطبوبي بل خطوة اضطرارية لمنع الأسوأ، لكن من دون إغفال لعبة المخاتلة من خلال فسح المجال لبعض معاونيه للظهور ومحاولة التقليل من الاتفاق وإفراغه من محتواه وكأنه حادث عابر أو خطوة روتينية.
ربما الهدف إظهار أن الطبوبي لا يستطيع الاستمرار في “تنازلاته” وأن على الحكومة أن تكافئه بتنازلات مقابلة من خلال “حوار اجتماعي” ينتهي بإعلان زيادات جديدة في الرواتب، وهو أمر لا يبدو أنه ممكن الآن، فالحكومة التي تقاتل لإدارة أزمة الديون وخلاصها لا يمكن أن تغرق نفسها بالتزامات مالية جديدة تزيد من حجم أعبائها.
لكن في النهاية، يعرف الاتحاد أن لا خيار أمامه سوى المضي في العقد التوافقي، ولا ينسى أن صانع هذا العقد هو الرئيس قيس سعيد الذي لن يتسامح مع أيّ جهة يمكن أن تعرقل خططه وتظهر في أعين الناس وكأنه لا يختلف عمن سبقوه. سيكون الاستقرار الاجتماعي أهم الرسائل الإيجابية التي يرسلها إلى الناس كمقدمة لحل أزماتهم المختلفة.
وبالرغم من أن الطبوبي سعى للنأي بنفسه عن منظومة ما قبل 25 يوليو، ورسم خط ثالث، لكنه وقف عمليا إلى جانب تلك المنظومة خاصة من خلال الإضراب الذي سبق الاستفتاء على الدستور، وبدا وكأنه رسالة من الاتحاد بأنه لن يسمح بمرحلة سياسية جديدة يكون هو هامشا فيها بعد أن كان طرفا مؤثرا في المرحلة التي سبقتها.
الإضراب في ظاهره كان للضغط على الحكومة للإيفاء بتعهدات سابقة لحكومات أخرى كان تنفذ ما يريده الاتحاد بمجرد أن يدوس على الزر، لكنه بدا انخراطا في حملة “جبهة الخلاص” التي تتزعمها حركة النهضة الإسلامية، بهدف منع أيّ تغيير سياسي يطوي أدوار مختلف الفاعلين السياسيين والنقابيين.
سيكون من المهم أن يعود الاتحاد إلى دوره التشاركي الباحث عن تحسين أوضاع منخرطيه من عمال وموظفين من خلال التفاوض مع الحكومات لا بالإملاءات ومعارك ليّ الذراع
ثم اكتشف الطبوبي، واكتشفت معه الاتحادات الفرعية، أن الرئيس قيس سعيد ليس من النوع الذي يخضع للضغوط أو الابتزاز السياسي أو النقابي، وأن لا حل معه سوى التهدئة والحوار دون شروط مسبقة.
اليوم اتحاد الشغل بات أهدأ من خلال مشاركته في العقد الاجتماعي الذي يعني في أحد أهم أهدافه خلق هدنة اجتماعية تمكّن الحكومة من العمل على تلافي الكثير من النقائص وسد الفراغات ومنع انزلاق البلاد لتكون دولة فاشلة. مهمة الاتحاد أن يكتفي بالصمت ويتوقف عن الشعارات والإضرابات والاعتصامات وأن يشرح لأنصاره وقواعده أن الدنيا تغيرت وأن زمن التساهل قد مضى، وأن تونس في حاجة إلى الجميع لينقذوها بأن يتحملوا لبعض الوقت.
لكن هذا الهدوء لا يمنع من أن تتحرك الدولة لوضع الاتحاد في حجمه الطبيعي، لأن تركه كما هو الآن سيكون مشكلة على المدى القصير. والحجم الطبيعي الحقيقي أهم مزاياه ليس الحجم العددي الذي يراهن عليه الاتحاد، بل السؤال: ماذا تقدم هذه المنظمة النقابية العرمرم حقا للتونسيين غير التظاهرات.
هل يقدر الاتحاد فعلا أن يكون شريكا اجتماعيا من خارج فكرة الضغط للحصول على المكاسب بشكل دائم، دائما زيادات وعلاوات ومطالب تختفي لتظهر أخرى، ودائما الاتحاد يأخذ من الدولة بقطع النظر عن وضعها وظروفها إن كانت قادرة على دفع الزيادات أم لا.
سيكون من المهم أن يعود الاتحاد إلى دوره التشاركي الباحث عن تحسين أوضاع منخرطيه من عمال وموظفين من خلال التفاوض مع الحكومات لا بالإملاءات ومعارك ليّ الذراع.