إيران بين هدنة معلقة وجولة أخيرة

انتهت الحرب الإسرائيلية – الإيرانية في اثنتي عشرة ليلة، ولكن ما لم ينتهِ هو سؤال المرحلة، هل دخلت المنطقة في تهدئة مستقرة، أم في هدنةٍ مؤقتة تسبق جولةً جديدة قد تكون الأخيرة للنظام الإيراني؟ فالمواجهة وإن بدت قصيرة، حملت معها تغيرًا عميقًا في معادلات الردع، وأعادت صياغة موقع إيران في النظام الإقليمي والدولي.
لم تكن هذه الحرب شبيهة بسابقاتها. كانت أقرب إلى عملية جراحية إستراتيجية نفذتها الولايات المتحدة بدقة ضد المنشآت النووية الإيرانية، والسياق الإقليمي والدولي لن يمنح إيران ترف المناورة كما في السنوات السابقة. الضربة الأميركية لم تكن مجرد رسالة عسكرية، بل كانت كسرًا لهيبة الردع الإيراني، ووضع النظام أمام أحد خيارين، التفاوض وفق شروط الحد الأدنى الأميركي، أو الذهاب إلى مواجهة لا يضمن عواقبها. الرسالة كانت واضحة هذه المرة، لم تكن إسرائيل وحدها في الميدان، بل أميركا بقدراتها العسكرية والاستخباراتية، وبقرار سياسي دون تردد.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب قدّم نموذجًا جديدًا في التعامل مع إيران. هو رجل الصفقات السريعة، لا الحروب الطويلة. وبهذه الروح أراد أن يُنهي الحرب كما بدأها، بضربة، فتفاهم، فإغلاق للملف. لكنه يعرف أن طهران قد لا تستجيب بالسرعة التي يريدها. لذلك، أعطاها ما يشبه “مهلة تفاوض”، وهو يدرك أن أي مماطلة فيها ستُعتبر مسارًا نحو الجولة الثانية من الحرب، وهذه المرة قد لا تكون على المنشآت بل على النظام ذاته.
الواقع الداخلي في إيران لا يقلّ هشاشة عن موقعها الإقليمي. النظام الذي طالما استخدم البرنامج النووي كدرع لحماية ذاته، خسر تلك الورقة فجأة، وظهر ضعيفاً أمام شعبه والعالم. كل أساطير “القدرة على الرد” و“تحويل المنطقة إلى جحيم” تبخّرت في سويعات. الرد على اغتيال قاسم سليماني في 2020 كان مسرحياً، أما الرد على ضرب فوردو ونطنز وأصفهان فكان رمزياً. وبين الرمزية والتمثيل، تسقط آخر أوراق النظام.
◄ الدبلوماسية الخليجية ستبقى تبني جسور التهدئة وتؤمن قنوات الوساطة، بدورٍ رصين ينبغي أن يستمر، ليس فقط لحماية أمن الخليج، بل لصون استقرار المنطقة بأكملها
وكما دخل العراق في حقبة صدام حسين في مواجهة مع العالم بسبب عناده السياسي، دخل النظام الإيراني في مواجهة مزدوجة، مع الداخل الغاضب ومع الخارج الحاسم. وكما كان احتلال بغداد 2003، قد تكون ضربة فوردو 2025 بداية الانهيار، إن لم تتخذ طهران قرارًا جذريًا بالتخلي عن مشروعها النووي لصالح بقاء الحد الأدنى من الدولة.
لكن هل تتنازل إيران حقًا؟ السؤال لا تزال إجابته ضبابية. النظام يتصرف كما لو أنه لا يزال يمتلك القدرة على إدارة الوقت والتكتيك، لكن الواقع يقول إن زمن المماطلة انتهى. الفرصة الأخيرة أمام إيران قد تكون بالفعل هذه التهدئة. ولكن إذا اختارت كسب الوقت كما فعلت في المفاوضات السابقة طوال السنوات الماضية أو حتى الجولات الخمس الأخيرة، فإن الجولة الثانية من الحرب لن تكون محدودة كما في الجولة الأولى. بل ستكون مفتوحة على إسقاط النظام، وتجفيف أذرعه، وتفكيك ما تبقى من شبكة وكلائه.
وأخطر ما في المشهد ليس الحرب التي انتهت، بل الغموض الذي يكتنف ما بعدها. فوقف إطلاق النار لم يحلّ الأزمات، بل جمّدها. والخوف كما جربته شعوب المنطقة من قبل، أن يكون الصمت الحالي مقدمة لانفجار أعنف، فنهايات الحروب تُكتب دائمًا بلغة تشبه بداياتها.
المنطقة أمام مفترق نادر، إما أن تستثمر في نهاية فعلية للحرب تؤسس لحوار جاد حول مستقبل إيران ودورها، أو أن تعود سريعًا إلى حافة الخطر. ولذا، وهذه المرة تحديداً العالم بدأ بالفعل -ولو احترازياً- التحضير لمرحلة ما بعد نظام ولاية الفقيه، فلا مساحة للمفاجآت في مشهد تحكمه الحسابات الدقيقة.
وستبقى الدبلوماسية الخليجية تبني جسور التهدئة وتؤمن قنوات الوساطة، بدورٍ رصين ينبغي أن يستمر، ليس فقط لحماية أمن الخليج، بل لصون استقرار المنطقة بأكملها. ففشل إيران في اغتنام الفرصة المقبلة للمفاوضات مع إدارة ترامب، لن يعني مجرد سقوط النظام، بل قد يفتح أبواب فوضى جديدة لا تُحمد عقباها. المطلوب اليوم ليس وقف إطلاق النار فقط، بل وقف إطلاق الأوهام. وعلى طهران أن تدرك أن التغيير الجوهري في سلوكها لم يعد خياراً، بل ضرورة، وأن العالم بعد هذه الحرب لن يقبل بأقل من شرق أوسط مستقر وآمن.