إقالة رؤساء الحكومات في تونس: الحل في "أبناء الإدارة" أم السياسيين

أعاد قرار الرئيس التونسي قيس سعيد إقالة رئيس الحكومة كمال المدوري وتعيين رئيسة حكومة جديدة التساؤلات حول سرعة تغيير رئيس حكومة يفترض أنه يقود فريقا حكوميا لتنفيذ برنامج اقتصادي واجتماعي يحتاج إلى وقت. وعادة ما يستغرق البرنامج بين ثلاث وخمس سنوات في حين أن المدوري لم يبق في وظيفته سوى أشهر قليلة (تم تعيينه في أغسطس 2024).
المعطى الأول أننا أمام نظام رئاسي يكون فيه التخطيط والقرار بيد الرئيس، ومهمة رئيس الحكومة هي تنسيق العمل الحكومي بشكل يدفع لتنفيذ البرنامج المتفق عليه، ما يعني أن رئيس الحكومة يلعب دورا يكون فيه أشبه بضابط اتصال، فإن نجح استمر في مهمته وإن فشل يتم تغييره. ليس المهم الوقت بل أداء المهمة.
ووجد رؤساء الحكومات الذين تم تعيينهم منذ 25 يوليو 2021 أنفسهم أمام رئيس يريد تحقيق نتائج سريعة يلمسها الناس، وليس فقط مجرد مؤشرات أو نوايا ومقدمات لنتائج قد تتحقق بعد سنتين أو ثلاث. وهذا عنصر أساسي في تفسير كثرة التعديلات، وخاصة معاملة رئيس الحكومة كأنه وزير وليس قائد أوركسترا، إذ لا يحاسب على الأداء الجماعي للوزراء وإنما على أدائه الشخصي.
وهناك معضلة تعترض قيس سعيد في اختيار الوزراء ورؤساء الحكومة، وهي أنه لا يتعامل مع أسماء معروفة لديها خبرات سابقة أو مع قيادات حزبية أو سياسية يعرف توجهها وإن كانت تتماشى مع ما يريده أم لا. فهو يتعامل مباشرة مع الإدارة، ويختار وفق مقاييس إدارية (خبرات في مجال محدد، وسجل إداري ثري مثل تجربة رئيسة الحكومة الجديدة سارة الزعفراني الزنزري في وزارة التجهيز، واقتراح خليفتها في الوزارة من محيطها المهني صالح الزواري).
التعيينات التي تتم من داخل الإدارة تفضي إلى اختيار شخصية بمواصفات الإدارة التونسية وأمراضها مهما كان مميزا ومختلفا ومتحمسا للتغيير. أغلب الوزراء ما بعد 2021 تكنوقراط ينظرون إلى القضايا الاقتصادية والاجتماعية بعقل بارد ويقدمون حلولا تعتمد على الأرقام بقطع النظر إن كانت تلك الحلول تتماشى مع اللحظة السياسية أم لا. حلول أغلبها وفق مقاييس ليبرالية، ما يفسر صعوبة الاندماج مع المعالجة الاجتماعية التي يريدها قيس سعيد.
◙ المشكلة التي تعترض حكومات ما بعد 2021 أن انتماء البعض من كادرها إلى الإدارة وولاءه لشبكاتها أقوى من ولائه للحكومة والرئيس
المدوري مثلا قيل إن الرئيس سعيد جاء به خصيصا لتنفيذ مقاربة الدولة الاجتماعية كونه كان وزيرا للشؤون الاجتماعية وعارفا بتفاصيل حياة الناس والأرقام الخاصة بالفئات المجتمعية التي تستحق الدعم والمساعدة سواء المالية أو الخدمية، وكذلك مراجعة عقود الشغل الهشة والعمل بالآليات المؤقتة داخل الوزارات. لكن خروجه السريع والإشارات في كلمة الرئيس سعيد أمام مجلس الأمن القومي أو خلال تكليف رئيسة الحكومة الجديدة يظهر أن رئيس الحكومة المقال كان خارج تلك الخطط.
ونتذكر أيضا وزير الاقتصاد السابق سمير سعيد كيف تبنى وجهة نظر صندوق النقد في موضوع رفع الدعم بالرغم من معرفته بالتوجه الرسمي ما دفع الرئيس سعيد إلى التدخل وإقالته. وأكد الوزير المقال في كلمة في جلسة عامة بالبرلمان بأن صندوق النقد الدولي يبقى الخيار الأول والمقنع لتونس إلى حد هذه الساعة ودعا “من لديه خيار بديل إلى الإصداح به لمناقشته وإذا كان مُقنعا فسيكون أول من يغير رأيه“.
والخلاصة على هذا المستوى أن “أبناء الإدارة” هم تكنوقراط بالضرورة حتى وإن سعوا إلى إظهار تفاعلهم مع مقاربة قيس سعيد الاجتماعية. تلك تقاليد الإدارة وثقافتها وتجربة الموظفين فيها. وطالما أن الوزراء ورؤساء الحكومة والكادر الحكومي عموما من أبناء الإدارة فأغلبهم ليست لديه حساسية تجاه اللوبيات التي تستوطن الإدارة وتوظفها لخدمة أجنداتها. والبعض يضع نفسه في خدمتها بوعي أو دونه.
والمشكلة التي تعترض حكومات ما بعد 2021 أن انتماء البعض من كادرها إلى الإدارة وولاءه لشبكاتها أقوى من ولائه للحكومة والرئيس، وهذا ما يفسّر حديث قيس سعيد عن أن اللوبيات تستوطن القصبة، والتلميح للمؤامرة بعد إقالة المدوري. هناك مشكلة تستوطن الإدارة التونسية، وهي الولاء القطاعي. أبناء أيّ قطاع يرفضون دخول أيّ شخص من قطاعات أخرى ويعرقلون توليه مهمة الإشراف أو التخطيط.
واتضح مشهد صراع القطاعات ما بعد ثورة 2021 بشكل جلي من خلال الإضرابات والاحتجاجات والاعتصامات وعرقلة العمل الحكومي بهدف تحقيق مكاسب للقطاع مثل الزيادات والعلاوات واستثمروا في ذلك ضعف الدولة.
يضاف إلى كل ما تقدم من أسباب معرقلة لأداء “أبناء الإدارة” في الكادر الحكومي أن أغلب الوزراء ومساعديهم غير مسيسين، ولذلك لا يتفاعلون مع تحمس الرئيس سعيد لفكرة الدولة الاجتماعية ورهانه عليها. هي عند قيس سعيد مقاربة اجتماعية سياسية للتغيير، أما عندهم فإجراءات روتينية لضبط عدد المستفيدين من الدعم أو الخدمات.
وهذا ما يفسر عدم حماسهم للشركات الأهلية، التي تراوح مكانها، ويتهم الرئيس جهات نافذة بعرقلتها لأنها تمس من مصالح شبكات مدعومة من الإدارة.
والأهم هنا هو الحاجة إلى رؤساء حكومات ووزراء مسيسين، فمن دونهم لا يمكن للرئيس أن ينفذ إصلاحاته. لكن المعضلة في تحديد قائمة المسيسين، وهل هناك كوادر في الإدارة مسيسة وقريبة من قناعات الرئيس سعيد وقادرة على تنزيلها وفتح آفاق أوسع أمامها. والتسييس هنا لا يقصد به إعلان الولاء أو ترديد الشعارات الداعمة لقيس سعيد، أو التهجم على الخصوم لإثبات الانتماء لمنظومة 25 يوليو 2021.
◙ الرئيس سعيد يحتاج إلى أن يوسع اختياراته وألا تكون هذه الخيارات محصورة بموظفي الدولة مهما كانت خبراتهم وإلمامهم بالملفات
لكن أين نجد سياسيين داعمين لمسار “25 جويلية” في واقع عمل فيه الرئيس سعيد قطيعة مع الطبقة السياسية التي جاءت بعد الثورة بمن في ذلك السياسيون الذين دعموه ووقفوا في صفه واعتبروا أنفسهم “حزب الرئيس” و”الحزام السياسي” للرئيس. كما أن هناك قطيعة غير معلنة مع المنظومة التي عملت قبل الثورة، ما يجعل فرص اختيار سياسيين للعمل الحكومي أمرا صعبا.
ومن المهم التأكيد على أن الرئيس سعيد يحتاج إلى أن يوسع اختياراته وألا تكون هذه الخيارات محصورة بموظفي الدولة مهما كانت خبراتهم وإلمامهم بالملفات، إذا يبقى تعاطيهم محكوما بثقافة الإدارة وأدائها. وثمة وزارات سيكون من المفيد أن يديرها قادمون من القطاع الخاص أو القطاع المشترك، هؤلاء سيأتون بروح الإصلاح التي تغير العالم اليوم، من الأجيال الجديدة المنفتحة على الخيارات التي توفرها التكنولوجيا. كما أنهم ليسوا بالضرورة فاسدين لكونهم ناجحين إداريا وماليا.
ومن ضمن عناصر الأزمة التي قادت إلى القطيعة بين قيس سعيد ورؤساء الحكومة والوزراء أن هناك قطيعة في التواصل بين الطرفين. الرئيس يعتقد أنه هو من يضع السياسات، وهو من يفكر ويقترح، وعلى السلطة التنفيذية مهمة التنفيذ، والمنفذون يتعاملون مع الأمر بعقلية الواجب وخاصة بعقلية التعاطي الإداري البطيء والعقل البارد، ما يقود إلى التأخير والتعطيل والعرقلة.
يفترض أن الرئيس يستمع لرؤساء الحكومة والوزراء والكادر الإداري وينظر إلى تقاريرهم وأن يطلع على الأرقام والحقائق ويبني عليها خطته في المرحلة القادمة لأنها تعبّر عن حقيقة قدرات الاقتصاد ووضعه بدل تكليفهم بتنفيذ برامج تحتاج لدراسة وإمكانيات لوجيستية وتمويلات.