إقالة الوزراء ترسيخ لمبدأ المحاسبة لدى قيس سعيد

الشرعية الانتخابية التي يحصل عليها أي مسؤول، حتى لو كانت عالية، تحتاج إلى اختبارها على أرض الواقع عبر عدة مقاييس منها ما يتعلق بالقدرة على توفير حاجيات الناس، ومنها ما يتعلق بحسن إدارة القطاعات الحيوية، وخاصة الاقتصاد، ومنها إظهار الدولة قدرتها في تنفيذ العدالة بمختلف أوجهها وتفاصيلها.
المقياس الرئيس في تونس لنجاح المسؤول، وخاصة رئيس الدولة، هو قدرته على أخذ حق الفئات الضعيفة من المسؤولين المقصّرين، ومن المحتكرين، ومن كل من وجد الفرصة ليستقوي على الدولة والناس.
قطع الرئيس قيس سعيد أشواطا لا بأس بها على مستوى الحرب على الفساد والمحتكرين، وإن كان الأمر يحتاج إلى وقت طويل لأن الأمر يتعلق بميراث عقود، خاصة في ظل تحالف وثيق مع دوائر مؤثرة في الدولة.
لكن المهم أن ما يبحث عنه الناس موجود وملموس، ويتعلق بالمحاسبة كقيمة مجتمعية تحفظ لمختلف الفئات حقوقها وللأفراد كرامتهم. والمحاسبة لا تتعلق فقط بمن يسرق أو يتحايل، فهناك وجه مهم منها يتعلق بمن يفشل في تحمل المسؤولية خاصة في المواقع المتقدمة، إما لعدم قدرة على مجاراة تعقيدات مهمته، وإما لتقصير واستهانة.
◙ لكل وزير أسلوبه في التعامل، لكن بالأخير فإن الناس يحكمون بالنتائج وبمدى قدرة أيّ وزير على تحسين واقع القطاع وخدماته، لكن المقياس يظل تقييم الناس وتفاعلهم مع الوزارة
ويؤكد قيس سعيد أنه لا يوجد مسؤول محمي من الإقالة والمحاسبة في حال فشله وتراخيه في خدمة الشعب التونسي أو تغطيته على الفساد والفاسدين.
وكشف الإقالات الأخيرة لوزراء وولاة (محافظين) وقبلها لمسؤولين في مواقع مختلفة أن قيس سعيد لا ينظر للمحاسبة على أنها اتهام للوزير والمسؤول وليست استهدافا له، وإنما من منظار حق الدولة والناس، وهو ما يعني أن المسؤول الذي يعجز أو يتراخى عن أداء دوره أو يحوله إلى نافذة لتصفية حساباته الشخصية مع كوادر المؤسسة والموظفين أو المواطنين، لا مكان له في الحكومة ومؤسسات الدولة.
قد لا يكون الوزير المقال هو المسؤول المباشر عن سبب الإقالة، وأن الخطأ من دائرة أخرى في مجال وزارته. لكنه في النهاية هو المسؤول عن مختلف التفاصيل ويجب ألا يكتفي بما يصله من تقارير من جهات قد تكون هي نفسها معنية بالفساد أو شريكة فيه أو واقعة تحت تأثيره تحت الضغط.
الوزير هو صورة مصغرة من رئيس الدولة، وهو رئيس على وزارته، وعليه أن يستبطن أفكار الرئيس وخططه وأداءه، فإذا كان الرئيس يكتفي بتقارير اللجان وتراتبية السلم الوظيفي يكون الوزير كذلك، لكن إذا كان الرئيس في حالة قيس سعيد يريد أن يعرف مختلف التفاصيل بنفسه ويفاجئ المسؤولين والمؤسسات والمواطنين بحضوره غير المتوقع للوقوف على الواقع كما هو، فعلى الوزير أن يسلك الطريق نفسه حتى يشعر الموظفون والمسؤولون في الوزارة المعنية أن ثمة عينا تراقب وتفاجئ وتحاسب بالعدل، وفي الوقت المناسب، وينعكس ذلك على الخدمات التي تقدم للمواطنين.
ولو أخذنا مثلا وزارة النقل، فما الذي تغير فيها، وهل شعر الناس فعلا أن الوزير المقال قد حسّن من الخدمات وقضى على الظواهر السلبية. طبعا لا. صحيح أن للرجل مبرراته خاصة في وزارة تشبه إمبراطورية بآلاف الموظفين وفيها قطاعات حيوية، وحيثما التفت وجد أن الأمور سيئة وصعبة.
ورغم أن شركات النقل الحكومي المختلفة (جوا وبحرا وبرا) تجمع الكثير من الأموال من خدماتها، لكن التقارير السنوية تحتوي على أرقام سلبية، وتضطر الدولة لأن تضخ من الميزانية الملايين لإنقاذ الشركات وتمكينها من دفع الرواتب.
كل هذا صحيح، لكن مهمة الوزير لا تقف عند المشاهدة وتسجيل أرقام المدفوعات والخسائر. والوزير الناجح هو الذي يقدر على جسر الهوة تدريجيا. الخسائر لا تأتي من فراغ، ولا يمكن لشركات نقل مثل الحافلات والمترو والقطارات تؤمن سفر ملايين الناس أن تكون خاسرة، وعليه أن يحل هذه المفارقة، ويصل إلى سبب العرقلة والتعطيل، ويميط اللثام عن دوائر الفساد التي تعشش في وزارته.
لا يمكن للوزير المنكفئ على نفسه، ولو كان كفاءة عليا، أن ينجح. المهمة تحتاج إلى الجرأة وحساب مصلحة الدولة قبل مجاملة المسؤولين المحيطين بالوزير وقبل نصائحهم التي تأتي عادة من باب “لحاجة في نفس يعقوب قضاها”، وقبل المجاملات، ما يخلق مناخا في الوزارة المعنية يوحي بأن الوزير قوي، وهذا دليل على أن الدولة قوية، ولن تسمح بالفوضى القديمة، ولا أن يمد أحد يده ليسرق منها تحت أيّ عناوين كانت.
◙ المقياس الرئيس في تونس لنجاح المسؤول، وخاصة رئيس الدولة، هو قدرته على أخذ حق الفئات الضعيفة من المسؤولين المقصّرين، ومن المحتكرين
الوزير القوي هو الذي يتحدث باسم الدولة في وزارته، لا أن يقول هذه أوامر من أعلى، أو أنه “العبد المأمور”، أو أنه “صباب ماء على اليدين” كما جاء في المثل التونسي الذي يكرّس سلبية المسؤول وضعف ولائه للدولة.
أن يكون الوزير رئيسا في وزارته، وإذا كان بشخصية قوية، فهذا سيجعله يصارح الناس بواقع الدولة ماليا، وأنه ليس في وسعها أن تتحمل المزيد من المطالب والشروط من زيادات وترقيات، وأن يتابع حجم العمل في المؤسسة وهل أنه يتناسب مع جحافل الموظفين أم أن على الوزارة أن تفوّت في العدد الذي لا تحتاجه إلى وزارات أخرى.
مقياس المسؤول في وزارته عنصران، الأول هو رئيس الحكومة الذي يستمد شرعية خططه وبرامجه من رئيس الدولة، والثاني هو خدمة الناس، فهل قيم وزير النفط المقال عمل وزارته بالنظر إلى الخدمات التي تقدمها للناس، وهي خدمات دون المأمول، ولا تعكس ما يقوله الرئيس سعيد باستمرار.
وإذا كانت زيارات قيس سعيد إلى شركات النقل الحكومية (حافلات وقطارات ومترو) قد كشفت فوضى عارمة وإتلافا واستهانة بالمال العام، وآخرها زيارة مستودع القطارات بجبل جلود ومحطة المترو الخفيف بتونس البحرية، فما الذي قام به الوزير ووزارته منذ استلامه المهمة قبل أكثر من عامين.
وفي حالة وزير الثقافة المقالة، فإن المشكلة ليست فقط في الأداء، ولكن في علاقتها بالعاملين في الوزارة وبالمثقفين والفنانين، وما تؤاخذ عليه هو الحدة في التعامل مع قطاع متنوع وحساس من جانب أنه لا يقبل العلاقات الحدية والتراتبية. فوزير الثقافة يفترض أن يكون فاعلا بين أهل القطاع وجزءا منهم لا منكفئا على نفسه، وأن يستمع إلى الجميع بمن في ذلك من يختلف معهم بأن يحوّلهم إلى أصدقاء لا إلى خصوم كما فعلت الوزيرة المقالة.
لكل وزير أسلوبه في التعامل، لكن بالأخير فإن الناس يحكمون بالنتائج وبمدى قدرة أيّ وزير على تحسين واقع القطاع وخدماته، لكن المقياس يظل تقييم الناس وتفاعلهم مع الوزارة.