إعلام عربي "صيني" مقلد ورخيص

عندما تتحدث إلى مسؤولين عرب حكوميين أو من القطاع الخاص، يعطونك الانطباع بأن الدول العربية تجزل الإنفاق على الإعلام. نفس المفردات تتردد في دول ثرية أو متوسطة الثراء. أرقام بمستوى 5 ملايين دولار على هذا المشروع و10 ملايين على ذاك. إنتاج المحتوى، سواء الخبري أو الترفيهي، تتراوح كلفته بين عشرات الآلاف ومئات الآلاف. البرامج الوثائقية التي تستحق أن ينظر لها كإنتاج له قيمة عادة بعشرات الآلاف، والدراما الرمضانية السوبر تباع الحلقة منها لعرض أول بحدود 100 ألف دولار، أي 3 ملايين دولار لشهر كامل. الفضائيات الإخبارية، حتى تلك الثرية منها، انتبهت لأهمية “ترشيد” الإنفاق فصارت تملأ أوقات البث بالبرامج الحوارية. الضيف يكلف ألف دولار، أو أقل، لساعة بث. يا بلاش.
من الصعب القول إن كان مثل هذا الإنفاق سيؤتي نفعا. يمكن بسهولة القول إن كل الدول العربية تشتكي من تأثير الشبكات الاجتماعية. كل يوم نسمع عن مشاكل، وكل شهر عن إجراءات صارمة لضبط الأمر، وكل سنة قوانين أكثر وأكثر. السبب بسيط ولا يكمن في انفلات الشبكات الاجتماعية، بل في عدم قدرة وسائل الإعلام العربية على توجيه الرأي العام سياسيا أو استرضائه ترفيهيا. مستويات الإنفاق تكمن في قلب هذه المعضلة.
لا يمكن إعادة اختراع عجلة الإعلام. الغرب اخترعها ويعمل على أساسها. والإعلام العربي يقلّد الغرب، ولكن بنسخة “صينية” إذا جاز التعبير. في السوق، يصفون السلعة الرخيصة أو التقليد الرخيص بـ”الصيني”. وإعلامنا فيه الكثير من الملامح “الصينية”.
المقارنة بالأرقام مهمة. فلنأخذ الإعلام الحكومي في دولة غربية أساسية مثل بريطانيا. بالأمس نشرت الصحف أخبارا عن عزم الحكومة البريطانية إيقاف استحصال ما يسمى بضريبة التلفزيون بحلول 2027. هذه الضريبة تمول بي بي سي منذ عشرات السنين. محطات بي بي سي التلفزيونية والراديو والمواقع هي ذراع الوعي الشعبي المتراكم. ميزانية بي بي سي لهذا العام تراجعت بشكل حاد لتصبح 3.2 مليار جنيه إسترليني (حوالي 4.4 مليار دولار). قبل عامين كانت 4 مليارات جنيه (5.5 مليار دولار)، وقبلها أكثر وأكثر. الانتقادات اليوم توجه للحكومة من كل حدب وصوب: كيف ستعيش بي بي سي بهذه الميزانية المتقشفة؟ لو كانوا يعرفون بكم تعيش فضائيات عربية.
الإعلام الحكومي، رغم كل الرقابة على الإنفاق الخاص به، لا يخرج من جيب أحد. وزيرة الثقافة البريطانية تصرف لبي بي سي ميزانيتها، وتذهب إلى الفراش لتنام دون قلق بأنها أنفقت كثيرا أو قليلا. هي أنفقت ما تراه صحيحا. إعلام القطاع الخاص حكاية أخرى. الإعلام في العموم في الغرب هو قطاع خاص. فلنلقي نظرة.
مطلع العام اشترت صحيفة نيويورك تايمز موقعا رياضيا ليعزز من حضورها في ساحة ترى أنها مهمة. دفعت 550 مليون دولار مقابل موقع “إثليتك”. كان بوسع الصحيفة أن تنفق أقل وتطور خدمتها الرياضية الخاصة. لكنها أدركت طول الطريق واحتمالات عدم القدرة على النجاح في استقطاب القارئ المهتم. أكثر من نصف مليار دولار مقابل الموقع، وهذه البداية. لا يزال هناك إنفاق يومي وشهري وسنوي على المحتوى والمحررين. أرقام ليست بالهينة، خصوصا وأنها تخرج من جيوب ملاك الصحيفة وليس من ميزانية حكومية. نفس حكاية الإعلام الحكومي، ولكن بلافتة “قطاع خاص”.
لا تستطيع أن تستقطب اهتمام الملايين بإنفاق الملايين. في بلد عدد سكانه على سبيل المثال 10 ملايين نسمة، تريد أن تؤثر عليه بمشروع إعلامي تنفق عليه 5 – 10 مليون دولار سنويا. تريد أن تنفق نصف دولار أو دولارا على كل مشاهد أو متابع سنويا، وتتوقع أن تكون مؤثرا؟