"إعادة التفكير في التنمية الثقافية".. دفاع من الثقافة ضد خصومها ومناصريها

محمد عبدالعال حسن يكشف عن طبيعة الثقافة ودورها في التنمية.
الخميس 2023/07/20
هناك إمكانية لتأسيس حداثة عربية بقيم عربية

تدخل الثقافة في صميم عملية التنمية بل وتمثل العنصر المركزي فيها للدول التي تسعى لبناء تنمية شاملة ومستدامة، ولكن أدوار الثقافة في فعل التنمية تواجه فهما خاطئا في الكثير من الدول التي مازالت تحتاج إلى تغيير جذري لنظرتها إلى الثقافة.

كثيرة هي المقاصد التي أراد تحقيقها الكاتب والباحث المصري محمد محمود عبدالعال حسن مدرس السياسات والإدارة العامة والمحلية بمعهد التخطيط القومي، من خلال أطروحات كتابه “إعادة التفكير في التنمية الثقافية: لاستئناف وصل المؤسسات والسياسات والأخلاق”.

 وكان أول تلك المقاصد استقصاء جملة المعوقات التي تكتنف عملية التنمية الثقافية، وذلك في فترة اتسمت بالتغيرات السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية المتلاحقة لعدد من الدول العربية، وباحتدام السجال حول قضايا الهوية الوطنية وأخطار التطرف الفكري، واستمرار ظواهر كالأمية وتغييب الوعي، وبروز قيم سلبية كالتراخي والكسل والعشوائية والأنانية والنفعية واللامبالاة والتواكل والتفسخ والخدر والذاتية المفرطة والاستهلاك الشره… إلخ.

ترميم القيم

في مقدمة كتابه الصادر عن شركة العبيكان للتعليم، قال عبدالعال حسن إن هدفه من طرح الدراسة التي عرض فصولها عبر صفحات كتابه هو الكشف عن طبيعة الثقافة والدور الأساسي الذي تقوم به في عملية التنمية، وفي تحسين نوعيات الحياة، بل وفي توفير فرص العمل عبر ما يسمى “الاقتصاد الإبداعي” تارة أو “الاقتصاد البنفسجي” تارة أخرى.

وينطلق الباحث من نتائج عدد من الدراسات النظرية والتجريبية الإحصائية التي لم تكتف بالإشادة بدور القيم في تعزيز عملية التنمية، بل وصفتها بأنها “الإكسير” مع تحيز فج للقيم الغربية. وفي الوقت نفسه نبهت إلى خطورة تحولات القيم مقابل حضور متفاوت لقيم أخرى سالبة لأي فعالية مجتمعية، وفي ظل غياب أو ضعف سياسات أو مبادرات لترميم القيم.

وتعبّر هذه النتائج بحسب صفحات الكتاب، عن جاهزية البعض لتشكيل ما يسميه ثقافته الجديدة، وما ينعته بسلوكه فيما لو تخلى الآخرون عن واجبهم في الحفاظ على ثقافتهم والتمسك بسلوكياتهم المتحضرة والحفاظ عليها من التشويه والطمس.

وقد استند مؤلف الكتاب في ما عرضه من نقاشات ونتائج وتوصيات على كل من دراسات الحالة في الخبرة الآسيوية وتحديدا في ماليزيا واليابان والصين وكوريا الجنوبية، التي تمكنت من إيجاد صيغة ما مقبولة للتعامل مع قيم الوافد في ثقافتها.

ع

وحَرِصَ على أن يُعرج على اتجاهات فلسفات التاريخ للبحث في اختبار مقولة “الشروط الثقافية”، أي مدى وجود الشروط الثقافية بوصفها محركا للنهوض وامتدادا للتفاعل المستمر الغامض بين الثقافة بتشكيلاتها والتنمية أو سجال القيم – الواقع.

ولفت المؤلف إلى أن أطروحات الكتاب تجادل في حاجتنا إلى النظر إلى التنمية بوصفها تمثلات وشفرات تصف كيفية إدارة الشأن العام وبوصفها نمطا للتبصر والتأمل، بحيث توضع التنمية في سياقات تاريخية وثقافية واجتماعية وتكنولوجية أوسع.

وتوقف صاحب كتاب “إعادة التفكير في التنمية الثقافية: لاستئناف وصل المؤسسات والسياسات والأخلاق”، عند تأكيد كثير من الباحثين الغربيين على وجود علاقة طردية بين نسق معين من القيم الثقافية والتنمية الاقتصادية، وأشار في هذا الصدد إلى أعمال ماكس فيبر ورونالد إنجلهارت، وقال إنه وفقا لفيبر، فقد كان صعود البروتستانتية في أوروبا عاملا مهما في تحديثها وفي التشجيع على القيم المواتية للتراكم الاقتصادي، وأما إنجلهارت فرأى أن القيم الثقافية لا يجب اعتبارها سمات ثابتة للمجتمعات، على عكس الثقافة التي تتغير. لكن بالتدريج وببطء شديد، تساءل: هل تصح أن تكون هذه القيم “كونية” لها صلاحية الإثمار والتكرار في البيئات غير الغربية؟

وعرض عبدالعال حسن كيف أن هذه الرؤية الفيبرية لاقت إبطالا لدى البعض، على الرغم من شيوعها في الأدبيات العربية والساعية إلى التقليد وإبراز دور الثقافة العربية في إحداث النهضة العربية على غرار المقولات الفيبرية التي ترى أن للأخلاق البروتستانتية دورا في التغيير التاريخي الأوروبي، وأن الأبعاد الثقافية لها قدرة الاستمرار وقوة التغيير بغض النظر عن الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية والدولية، ومن ثم يصبح للبعد الثقافي ميزة المُحرك الأساسي للتاريخ والتطور.

هذا النقد المادي التاريخي للفزعة الثقافية في مزاعم فيبر يؤكد على دور العوامل المادية في فهم العلاقات التي قادت إلى التطوير الاجتماعي والتاريخي والتكنولوجي في تاريخ أوروبا الحديث، وأن أطروحة فيبر تطمس الحقائق، وتختزل الواقع المركب في بعد أحادي بسيط، ومن ثم لا يمكن التسليم بأن المسيحية هي التي قادت إلى تقدم الغرب وأن الإسلام أدى إلى تراجع الشرق، وهذه النزعة الثقافية من سمات المركزية الأوروبية.

وبيّن المؤلف أنه منذ الربع الأخير من القرن العشرين تنامى الاهتمام العالمي بالتنمية الثقافية، وتجسّد المؤتمرات الدولية لفحص الجوانب الفلسفية والمالية والمؤسسية والإدارية للتنمية الثقافية، وأعقب ذلك اهتمام عربي بالتخطيط وبناء الإستراتيجيات العربية للتنمية الثقافية بوصفها توطئة ضرورية لتحقيق التنمية بالمعنى الشامل.

ووصف دراسته التي توزعت على فصول كتابه، بأنها “دفاع من الثقافة ضد خصومها ومناصريها، فإزاء جدل أسئلة فعالية الثقافة وشروطها ومصير التنمية وآفاقها، وكيف تسري العلاقة المتشابكة بينهما، تنوعت مرجعيات الباحثين انطلاقا من اتجاهات ثلاثة: الأول يرى أن القيم فرضت من مصادر عُليا، والثاني يُخال أنها تطورت بشكل حر وبالمصادفة، والثالث يزعم أن القيم يمكن التفاوض بشأنها”.

الثقافة وهوية المجتمعات

Thumbnail

شدد عبدالعال حسن على أنه بالرغم من أهمية فهم الاقتصاد، إلا أن الثقافة تشكل هوية المجتمعات وتصنع تاريخها، وتميز هويتها، وذلك أن التنمية تصاب بتمزقات أيديولوجية وثقوب فنية تحول دون فعاليتها، وإن الأمر ليس نزوعا ذاتيا والتزاما أخلاقيا وصوتا ضميريا بقدر ما هو أهمية للفعل الأخلاقي والقيمي.

وأوضح بأن القيم تمنح التنمية الحرارة اللازمة لتمضي لتصبح كيانا نابضا بالحيوية. فالتنمية ليست كتلا صماء أو وسائل محايدة، بل خطابات وممارسات مفعمة بالحياة إذا نُحتت من قيم المجتمع وتراثه وتاريخه وإبداعاته.

ورأى المؤلف أن كتابه جاء في خضم تغيير اجتماعي وسياسي لكون الاتجاهات والرؤى متباينة بشأن ضرورة إعادة هيكلة الواقع السياسي والاقتصادي والمجتمعي، وشاركت فيها تخوفات جدية على الهوية الوطنية.

وقد سعى المؤلف من خلال فصول كتابه لتحقيق مجموعة من الأهداف منها: مناقشة تاريخية ونقدية لمفهومي الثقافة والتنمية عبر المدارس المختلفة، ودراسة فرضية أن الكفاءة الثقافية شرط للإنجاز الاقتصادي. وتتبع بنية التنمية الثقافية وتشكيلاتها وعلاقتها بعدد من المفاهيم المرتبطة بها.

الكتاب يكشف عن طبيعة الثقافة والدور الأساسي الذي تقوم به في عملية التنمية وفي تحسين نوعيات الحياة

كما عمل على الوصول إلى إجابات لعدد من الأسئلة مثل: ما هي الثقافة؟ ولماذا صار تعريفها إشكاليا؟ وما هي أهم العناصر والدلالات المشتركة للثقافة؟ وما خصائصها؟ وكيف صارت بُعدا رابعا للتنمية؟ وكيف اقتصر تعريف التنمية على البُعد الاقتصادي؟ وهل تصح مقولة: إن التنمية في حاجة إلى الثقافة؟ وكيف تتبدى العلاقة بينهما؟ وإلى أي مدى يمكن للقيم أن تسهم في إعادة بناء أو ترميم الأنشطة التنموية؟ وما هي أهم أركان التنمية الثقافية وشروطها ودعائمها ومكوناتها وفق طرح عدد من الأدبيات، وهل يمكن الرهان على رباعية الاستعدادات والسياسات والمؤسسات والثقافة بوصفها شروطا للتنمية؟

ومن الفروض التي استعرضها المؤلف في كتابه، أن زيادة انتشار القيم الإيجابية الأصيلة المحابية للتنمية الذاتية، وما يتبعها من اتجاهات وسلوك ومعارف يقود إلى تحسين خطط التنمية الاجتماعية والاقتصادية في الدول والمجتمعات، وأنه لا يوجد ارتباط بين القيم الغربية والتحديث، ومن ثم فكلما تم فك الارتباط بين القيم الغربية وعمليات التحديث والتحرر من مقولات الفكر الغربي، كانت هناك إمكانية لتأسيس حداثة عربية بقيم عربية.

وأنه كلما ارتفعت كفاءة وفعالية إدارة التنمية الثقافية تتحسن مخرجات وعوائد وآثار التنمية الشاملة، وأنه في ظل المحو الثقافي الذي يوجد الشروط النفسية والاجتماعية والقيمية لما هو “التخلف”، يصعب على الدولة والمجتمعات أن تنجح في خططها الاجتماعية والاقتصادية بكفاءة وفعالية، وأن الثقافة ليست عصا التنمية السحرية بل أحد العوامل المؤثرة، ويتبقى استثمار باقي العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والسياسية والبيئية والتاريخية.

إضافة إلى أن التنمية القائمة على أسس ثقافية ووعي قيمي وفضاءات إبداعية تجعل من الحضارة حركة اجتماعية متكاملة الإيقاع وفق رؤية البعض، بجانب أن الثقافة والفنون توظفان لتكونا من أدوات تغيير المجتمعات والأفراد وتنميط مخيلاتهم وأحلامهم في الاتجاه الذي يخدم المصالح الاحتكارية، وأنه في ظل التحديات الدولية ينبغي الانتباه إلى حالة الأفراد ووضعية الثقافة والمؤسسات المولدة لها، بحيث لا يتم تحويل الثقافة والفنون إلى تجارة لتكون سلعة للمضاربة ووسيلة لسحق القيم الجمالية والخلقية والمعنوية.

المؤلف سعى من خلال فصول كتابه لتحقيق مجموعة من الأهداف منها: مناقشة تاريخية ونقدية لمفهومي الثقافة والتنمية عبر المدارس المختلفة

وناقش الكتاب عددا من العناصر المتعلقة بثنائية الثقافة والتنمية، ومنها دراسته لمدى التوافق أو التعارض بين عناصر ومضامين الثقافة والتنمية في بعض السياقات الحضارية المختلفة، وهل تتشابه معاني الثقافة والتنمية في اللغة العربية مع غيرها من اللغات. وأوضح بأن أهمية هذا السؤال تكمن في أن كلا المفهومين عرف خلفية كل سباق وبيئته ثم ذاع بوصفه حقيقة الثقافة والتنمية وهو ما يثير إشكالية احتكار المفاهيم من قبل الحضارة العربية – بمعناها الأيديولوجي ومزاحمتها لأي إسهامات أخرى كونها غير فاعلة.

وعرضت فصول الكتاب لتعاظم الدور الذي تقوم به الثقافة في إنجاح أو إفشال التنمية، وضرورة إدارة ذلك بكفاءة وفعالية، وقال “لأن التنمية الثقافية باتت ضلع التنمية الرابع المتمم للأضلاع الاجتماعية والبيئية والاقتصادية”.

وعمل عبدالعال حسن على أن يسهم كتابه في إثراء النقاش الإيجابي وإثارة الوعي بأهمية العامل الثقافي والقيمي، ولاسيما المؤسسات والسياسات المبنية على الثقافة من أجل تنمية حقيقية لا تنمية غافلة أو منقوصة، وأن يسهم أيضا في مساعدة القائمين على صياغة الرؤى القومية وبرامج وخطط التنمية في الوزارات والهيئات المختلفة لدمج الثقافة في خططهم، ما يسهم في استدامة عمليات التنمية وعدم تعارضها مع قيم المجتمع.

ووضح كيف يمكن إدارة برامج ورؤى التنمية الاجتماعية والاقتصادية، بحيث تكون متفاعلة ومستجيبة مع الأنساق القيمية للمواطنين، ويمكن أن يفيد في تعظيم موارد الدول والمجتمعات إذا أحسنت دعم وإدارة الفنون والسلع والصناعات والخدمات الثقافية وإعادة اكتشاف الحرف التراثية فيها وذلك الذي سيوفر فرص العمل، ويزيد من الدخل القومي، وفي محاولة لتجسير الفجوة بين أهداف التنمية ونتائجها الواقعية تأتي الثقافة لتحقق أهداف التنمية. ذلك أن دمج الثقافة مع عوامل أخرى في خطط التنمية ضامن لديمومتها، حيث إن تسليط الضوء على محورية الدور الذي تؤديه القيم والأفكار والعادات والتقاليد يساعد على إنجاح أو إفشال مشروعات التنمية مع ضرورة إدارة ذلك بكفاءة وفعالية.

13