إضرابات التعليم والتوقيت الخطأ

أقرت نقابة التعليم الثانوي في تونس إضرابا بيومين في آخر شهر مايو المقبل بما يتزامن مع مواعيد الامتحانات الوطنية لتلاميذ البكالوريا وسنوات التاسعة أساسيا، وهي أيضا مناظرة مهمة للانتقال إلى المعاهد النموذجية. كما يتزامن مع امتحانات بقية السنوات أو الإعداد لها.
ومن الواضح أن القرار غير مدروس بدقة، أو أن الهدف منه تسجيل موقف ليس أكثر. وتعرف النقابة أن لا أحد سيلتزم بإضرابها بما في ذلك أساتذة البكالوريا ومدرسو أقسام التاسعة، الذين يكونون في قلب المراجعة للامتحانات سواء داخل الأقسام أو عبر الدروس الخصوصية العادية أو ضمن نظام الدروس الخصوصية المركزة، والتي ترتفع فيها الأسعار بشكل مغر يجعل أيّ أستاذ عاجزا عن تنفيذ أيّ إضراب وقتها مهما كانت قناعته حتى لو كان قياديا في نقابة جهوية أو محلية.
لكن الأهم هنا أن عموم المدرسين، الذين قد لا يكون لأغلبهم علاقة بالدروس الخصوصية، لن يقبلوا فكرة الإضراب خلال الأسبوع المغلق للثلاثي الأخير لأن ذلك يجعلهم في مواجهة مع التلاميذ وأولياء الأمور والوزارة، ولا يريدون تكرار تجربة نقابة التعليم الابتدائي في 2023 حين رفضت تسليم نتائج الامتحانات للإدارة، وكيف انقلبت البلاد كلها ضد المعلمين وكالتهم التهم وشيطنتهم وخونتهم لسبب بسيط وهو أن الإضراب كان يهدف إلى الدفع نحو “سنة بيضاء” بهدف إرباك السلطة وجعلها في موضوع غضب شعبي، لكن الذي حصل عكس ذلك.
◄ الوحدة النقابية تتلاشى الآن لصالح حكومة الرئيس سعيد في ظل توسع دائرة المنتقدين للنقابات في الشارع بسبب أزمة التعليم وارتهان مستقبل التلاميذ الصغار، وهو وضع مثالي للسلطة لتغير التوازنات لصالحها
فهل تضغط النقابات المحلية والجهوية وعموم الأساتذة على النقابة لتراجع خيار التصعيد وتكتفي بالتحركات التحسيسية من خلال البيانات والاجتماعات، أم تصمت على تهميشها والاستخفاف برأيها في مسألة خطيرة مثل هذه، وتنتظر مصيرا مشابها لما جرى مع نقابة التعليم الابتدائي.
وكانت الوزارة وقتها قد أعفت 350 مدير مدرسة من مناصبهم، وحجزت رواتب 17 ألف مدرس، على خلفية رفضهم معالجة تقييمات اختبارات التلاميذ، في رسالة قوية على أنها جادة في مواجهة النقابة، وأنها لن تسمح بالمساس بصورة التعليم الحكومي وهز ثقة الأولياء به، خاصة في ظل تحول اهتمامات الناس إلى التعليم الخاص والنتائج الكبيرة التي تحققها المدارس والمعاهد الخاصة.
ويبدو أن النقابة، التي سكتت خلال العام، استفاقت متأخرا وقررت تكرار نفس قرار نقابة الابتدائي قبل قرابة عامين دون أن تقرأ الحدث وما حف به من تعقيدات، ودون أن تعتبر بفشل من سبقوها.
كما أن السلطة سترى في هذا الموعد استفزازا لها وتحديا لن تقبل به لأن الهدف المعلن منه هو محاولة إفشال الانتخابات الوطنية، بما تمثله من رمزية للاستقرار السياسي في البلاد. والوزارة الحالية لا تتفاوض بمفردها، مثلما كان يحصل في سنوات ماضية. الوزير حاليا يتحرك ضمن منظومة قيس سعيد، ولا يتصرف بالسلب أو الإيجاب، فلا يعطي وعودا ولا يغلق باب الحوار إلا إذا استشار وعرف موقف الحكومة مسبقا.
ستعطي نقابة التعليم الثانوي فرصة أخرى للسلطة لتتدخل بشكل مباشر وتخير المدرسين بين القيام بعملهم والالتزام بإنجاح الامتحانات أو انتظار عقوبات قاسية قد يكون من بينها توقيفهم عن العمل أو وقف رواتبهم، وهذا ممكن خاصة أن هناك الآلاف من خريجي الجامعة المتخصصين في التدريس على قائمة الانتظار.
صحيح أن هذا الخيار يبدو مبالغا فيه، قياسا بحكومات سابقة، لكن الوضع حاليا مختلف في وجود سلطة قوية ومتحفزة وتتعامل مع التعطيل والعرقلة، تحت أيّ مظلة، على أنه مؤامرة. والأهم من كل ذلك أنها تجد في ذلك دعما شعبيا أساسه موقف مسبق وحاسم مناوئ لعودة الفوضى التي شهدتها سنوات ما بعد الثورة.
وأفاد الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم الثانوي محمد الصافي، السبت، بأنّ “الهيئة الإدارية القطاعية للتعليم الثانوي، المنعقدة الجمعة، قرّرت تنفيذ إضراب عن العمل يومي 28 و29 مايو المقبل احتجاجا على ‘غلق أبواب الحوار وعدم تجاوب‘ وزارة التربية مع عدد من مطالبهم المادية والمهنية”.
لم تترك النقابات الفرصة كي يوجد من يتعاطف معها ويعتبر أن عملها مهم وضروري لإحداث التوازن مع السلطة. المشكلة أنها هي من قلبت التوازن كليا لصالحها ظالمة أو مظلومة وخلطت بين المطالب المشروعة ولعبة السياسة بما في ذلك داخل قطاع التعليم.
◄ يبدو أن النقابة، التي سكتت خلال العام، استفاقت متأخرا وقررت تكرار نفس قرار نقابة الابتدائي قبل قرابة عامين دون أن تقرأ الحدث وما حف به من تعقيدات
التونسيون ليسوا ضد النقابة في المطلق، ولكنهم يعارضون هذا الصلف الذي يجعل من مهمة النقابة فرض الأمر الواقع على حكومة تدور من مكان إلى آخر لجمع الأموال لتحريك الاقتصاد والاستثمار وتوفير مواطن الشغل، فتجد نفسها مجبرة على تحويل ذلك الجهد إلى زيادات في الأجور غير مبررة وغير مقنعة ولا يتحملها الاقتصاد.
قد تكون نقابة التعليم الثانوي تريد إثبات أن النقابة ما تزال قادرة على تحريك الناس في وقت بدا فيه أن اتحاد الشغل قد اختفى تماما إلا من بعض التصريحات العرضية لقادة مكتبه التنفيذي. القيادة النقابية تعرف أن الوضع لا يسمح بالمزايدة، فلماذا تترك نقابة التعليم الثانوي تغامر مثل هذه المغامرة، وفي توقيت خطأ.
قد تنقذ وزارة التربية النقابة من خلال استقبالها في جلسة رسمية بما يتيح لها الحديث عن تسوية أو وعود بتسوية وتقوم لاحقا بالتراجع عن قرار الإضراب، لكن ماذا لو رفض الوزير ومن وراء الوزير أن يستقبل وفد النقابة ويجلس إليها؟
ليس أصعب على اتحاد الشغل من هذا الوضع. في السابق كان يواجه الحكومات الضعيفة والمتهاونة بشعار وحدة النقابيين وبإغراءات الزيادة في الرواتب وتحصيل مكاسب ما كان الموظفون والعمال في القطاع الحكومي يفكرون فيها أصلا، مثل الحصول على نسب من أموال الجباية.
تتلاشى الوحدة النقابية الآن لصالح حكومة الرئيس سعيد في ظل توسع دائرة المنتقدين للنقابات في الشارع بسبب أزمة التعليم وارتهان مستقبل التلاميذ الصغار، وهو وضع مثالي للسلطة لتغير التوازنات لصالحها في خطوة أولى تقوم على تفكيك النزعة القطاعية وسعي القطاعات لتتنافس في تحقيق المكاسب على حساب الدولة.