إستراتيجية "خذ وطالب" تمهد لاستفادة تونسية أكبر من اتفاق الهجرة

صار أكثر من عشرة ملايين تونسي خبراء على مواقع التواصل الاجتماعي في تأويل دعامات الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي، ويبحثون في تأويل كل دعامة تأويلات قد لا تكون خطرت في أذهان من كتبوه وناقشوه من تونسيين وأوروبيين.
هناك ترف كبير في التأويل. منذ ثورة 2011 صار الناس خبراء في كل شيء؛ في الديمقراطية، في الدين، في كرة القدم، في التنس، في الطبخ، في التضخم، في نسب الفائدة.
وطبعا لا يمكن أن يمر حدث مثل توقيع اتفاق مع الأوروبيين دون تأويلات وتفسيرات وشروح، ولكن للأسف كل هذه التأويلات مبنية على استبطان الفشل ونظرية المؤامرة واستعادة قاموس المصطلحات المضللة التي تجعل كل ما تقوم به الحكومة، أي حكومة، منذ 2011 إلى الآن خيارا غير مرغوب فيه.
يحتاج الاتفاق إلى وثائق تشرح غموضه، وتفسر بنوده وتفصلها تفصيلا، وهذا ما سيحصل بالتأكيد قبل البدء بالتنفيذ، فليس من مصلحة الاتحاد الأوروبي وتونس أن يستمرا في اتفاق نوايا دون توضيحه. لكن ما يحتاجه أكثر هو أن يتعامل معه التونسيون كمكسب أولي وضروري لمساعدتهم على الخروج من الأزمة الحادة التي تعيشها البلاد في ظل أزمة اقتصادية دولية تضغط على الاقتصادات المحلية.
◙ بعيدا عن الشعارات، فإن أزمة اللاجئين التي تعيشها تونس حاليا يجب أن تدار باتجاه الجنوب، أي البحث عن حلول تحد من جعل تونس معبرا نحو دول شمال المتوسط
ومن دعائم النظر الإيجابية أن ينظر الناس إلى الاتفاق من الداخل من أجل تفعيله ومطالبة الأوروبيين بتنفيذ مختلف تفاصيله بشكل يخدم تونس في الوضع الحالي خاصة أن الاتفاق متعدد العناصر ولا يقف عند نقطة الهجرة وحدها، وهو غطاء لها كما يحرص المعارضون على التعامل معه.
الاتفاق حزمة متكاملة تقوم على معادلة دعم الاقتصاد التونسي بشكل يجعل البلد قادرا على النهوض بدوره في محاربة الهجرة غير النظامية، وهو ما كان مطلوبا من البداية بالنسبة إلى تونس، والأوروبيون هم من عرضوا فكرة الحزمة المتلازمة لأنهم يعرفون أن الجارة الجنوبية لا تقدر بوضعها الحالي على لعب دور فعال في التصدي لقوارب المهربين ولموجات متزايدة من اللاجئين.
وهنا يأتي دور السلطة التونسية لاستثمار هذه الأرضية من “الشراكة الشاملة” لتنويع سبل استفادتها من الدعم الأوروبي، معتمدة على إستراتيجية تونسية عريقة كان الرئيس المؤسس الحبيب بورقيبة يسميها “خذ وطالب”، والتي تعني القبول بما هو متوفر والاستمرار في تحسين الشروط ومراكمة المكاسب، خاصة أن الطرف الآخر محتاج إلى هذه الشراكة مثل تونس أو حتى أكثر، فهو يراهن على تونس في مهمة دقيقة من خلال السعي للحد من الهجرة غير النظامية.
ومن المهم الإشارة إلى أن أوروبا لم تكن لتبرم الاتفاق لولا حاجتها إليه تماما مثل تونس. وبعيدا عن التلبيس السياسي الذي يذهب إلى أن أوروبا متحدة نجحت في فرض اتفاق غير متكافئ مع تونس، فإن أوروبا تركيبة مختلفة الأهواء والمصالح وكان يمكن لتونس أن تحصل على أكثر مما تم الاتفاق عليه بكثير لو تحلت بالمرونة.
مصلحة إيطاليا من الاتفاق غير مصلحة فرنسا أو ألمانيا، وإذا تلكأت باريس أو برلين، فإن روما ستقاتل من أجل إنجاح الاتفاق، والحفاظ على قبول تونس به، وهذا ما يفتح الباب على مكاسب دائمة بشكل مباشر وغير مباشر، خاصة تشجيع صندوق النقد على تسريع اتفاقه معها.
ويمكن أن تكون دعامة “خذ وطالب” هي الدعامة السادسة والأهم من الدعامات الخمس التي تضمنها الاتفاق الذي تم إعلانه الأحد في تونس.
◙ من دعائم النظر الإيجابية أن ينظر الناس إلى الاتفاق من الداخل من أجل تفعيله ومطالبة الأوروبيين بتنفيذ مختلف تفاصيله بشكل يخدم تونس في الوضع الحالي
السلطة التونسية هي من ستعطي لتأويل الاتفاق مع أوروبا بعده الواقعي. إذا كانت تعرف واقع أزمتها، فهي قادرة على التعامل ببراغماتية لتحصيل الدعم الكافي من الاتحاد الأوروبي ومن صندوق النقد الدولي معا لأن هذا مشروط بذاك. أما إذا استمرت في التعامل مع الاتفاق من زاوية بعده السياسي المباشر، وخاصة استبطان موضوع التوطين، فإنها قد تخسر فرص الاستفادة المالية وقد تقف بالاتفاق عند نقطة البداية.
يفضي التحليل المنطقي لمحتوى الاتفاق إلى تأكيد أنه لا يشترط على تونس موضوع التوطين، وأن هناك لبسا يجري توظيفه سياسيا في سياق التخويف سواء من محيط السلطة أو من خصومها، ويتعلق بـ”دعم عودة المهاجرين غير النظاميين إلى تونس” على أن تتولى إعادتهم إلى “بلدانهم الأصلية وفقا للقانون الدولي ولكرامتهم”.
لا يشير هذا إلى سياسة توطين، ولكن الفكرة أن تعيد أوروبا إلى تونس من أفلتوا من الرقابة البحرية ونجحوا في الوصول إلى التراب الإيطالي وتساعدها في نقلهم إلى بلدانهم الأصلية، والمساعدة هنا مالية ولوجستية وليست دبلوماسية، وهو ما يعني أن مهمة إعادة هؤلاء اللاجئين غير النظاميين ستكون على عاتق تونس.
وستجد الحكومة التونسية الحالية، أو التي تأتي بعدها، نفسها مجبرة على أن تطور أداءها في مراقبة الحدود البرية قبل البحرية لمنع تسلل المئات من اللاجئين إلى التراب التونسي حتى لا تُجبر على استقبالهم ورعايتهم وإعاشتهم، وفي نفس الوقت منعهم من السفر بحرا حتى لا يعودوا إليها.
إن المقاربة معقدة، ولكن التوفيق في تنفيذ مختلف التفاصيل أمر ممكن.
والخطوة الأولى هي تشديد الحراسة على الحدود مع الجزائر وليبيا لمنع تدفق اللاجئين، وخاصة مع الجزائر في ظل شهادات كثيرة عن وجود حركة متزايدة لهذا التدفق، ولا يعرف إن كان ذلك بتراخ جزائري أم لا، خاصة أن الجهة التي يأتي منها اللاجئون، أي جنوب الصحراء، عُرفت في السنوات الأخيرة بحراك كبير للتهريب وتداخل أنشطة المهربين مع شبكات الإرهاب، والتغافل عنها قد يفتح الباب أمام عودة نشاطات الإرهابيين في وسط وغرب البلاد الذين كانوا يستفيدون من مرونة الدخول والخروج من وإلى تونس عبر الغابات المشتركة.
ولا يمكن الرهان فقط على التفاهمات الدبلوماسية المباشرة مع الجيران لحل مشكلة تسلل اللاجئين، كما لا يمكن توقع أن تقبل ليبيا أو الجزائر باستعادة اللاجئين الذين دخلوا عبر أراضيهما إلى تونس، فهذا يحتاج إلى اتفاق تماما مثلما تحتاج إعادتهم إلى بلدانهم الأصلية إلى اتفاقيات مسبقة بشأن تبادل اللاجئين غير النظاميين.
◙ مصلحة إيطاليا من الاتفاق غير مصلحة فرنسا أو ألمانيا، وإذا تلكأت باريس أو برلين، فإن روما ستقاتل من أجل إنجاح الاتفاق، والحفاظ على قبول تونس به
ما يجري من محاولات خفية لوضع اللاجئين على حدود الدول التي دخلوا منها يسيء كثيرا إلى صورة تونس، وقد كشفت عن ذلك سريعا يقظة المنظمات الإنسانية التي تعنى بحقوق اللاجئين.
عامل الوقت مهم في إدارة هذه الأزمة خاصة على مستوى منع التدفقات الجديدة على الحدود البرية، ووضع خطة دبلوماسية للتفاهم مع الدول الأصلية للاجئين من أجل استعادتهم مقابل ضمانات دعم ومساعدة من الاتحاد الأوروبي لهذه البلدان. مع ضرورة التأكيد على أن تونس ليس بمقدورها إنسانيا وأمنيا الاستمرار في احتضان الآلاف من اللاجئين خاصة أنها تستعد لاستقبال بضعة آلاف من التونسيين الذين هاجروا سرا إلى بعض الدول الأوروبية وفشلوا في تسوية أوضاعهم.
وبعيدا عن الشعارات، فإن أزمة اللاجئين التي تعيشها تونس حاليا يجب أن تدار باتجاه الجنوب، أي البحث عن حلول تحد من جعل تونس معبرا نحو دول شمال المتوسط، وفهم حقيقة أن أوروبا تتغير بشكل متسارع، وهي لم تعد الجنة التي يغامر الناس بالوصول إليها، وإذا وصلوا فقد نجوا وغنموا.
أوروبا نفسها تعيش ظروفا صعبة اقتصاديا بسبب تحولات المناخ والحرب في أوكرانيا وما تلاها من ارتفاع في أسعار الطاقة والغذاء، فضلا عن العبء الدبلوماسي والعسكري لهذه الحرب.
والنتيجة أن الاتفاق حاجة مشتركة لتونس وأوروبا، وكلتاهما ستقدّم التنازلات العملية لإنجاحه.