"إركز هيب هوب".. مشروع فني ينفتح على العالم محافظا على خصوصيات الموسيقى التونسية

الراب والمزود مزيج يتكلم بصوت الآخر وينقل إليه رسائل اجتماعية وسياسية.
الثلاثاء 2023/08/15
موسيقى تتكلم عن الشباب وتكلمهم

تزخر الساحة الموسيقية التونسية بمجموعات تبحث عن الاختلاف وتقدم أنماطا متنوعة، تعتمد على مواهب وخبراء، وتتحرك في إطار ضيق، تنهل من العالم وتحافظ على الخصوصية على أمل أن تكوّن عبر السنوات جمهورها الخاص، وتنجح في الانطلاق من المحلي إلى العالمي، ومن الفضاءات الضيقة إلى مسارح أكثر شعبية.

"برشا ناس ما تفهمناش" (الكثير من الناس لا يفهموننا)، هكذا تقول إحدى كلمات أغاني مجموعة “إركز هيب هوب” التونسية، بعنوان “لعريبة” (العرب)، وهي واحدة من أغنياتها التي يرددها عدد كبير من الشباب التونسيين، بعضهم يفهمها والآخر يسير خلف السائد والمنتشر.

هذه المجموعة الموسيقية المختلفة هي واحدة من العشرات من المجموعات التي تجري أبحاثا وتجارب متنوعة لعلها تقدم للساحة الفنية أنماطا جديدة، تنفتح على العالم والتغيرات الفنية الكبرى الحاصلة فيه بفعل التكنولوجيا وتلاقح الثقافات، لكنها تحاول جاهدة الحفاظ على الهوية المحلية.

الموسيقى ثقافة شارع

المجموعة تتميز بتمسكها بخصوصيات الموسيقى التونسية، حيث توظف الآلات الإيقاعية وآلة المزود في جل أغنياتها

بالعودة إلى التاريخ، نشأت موسيقى الهيب هوب منذ عام 1970 في نيويورك لكنها لم تنتشر إلا في عام 1979 وكانت حركة موسيقية ضد ما تعرض له السود من عنصرية وكنوع من التعبير عن الذات ضد المشاكل المجتمعية مثل الفقر والبطالة والظلم لتصبح ثقافة وفنا مستقلا في ما بعد.

ومن أشهر مغنيي هذا النمط الموسيقي في العالم نذكر سنوب دوغ وكانييه ويست وبيونسي وأمينام، وهم امتداد لأجيال من الموسيقيين الذين كانوا فعلا يرفضون عبر كلمات أغنياتهم كل أوجه التمييز والعنصرية بين البشر.

وتتكون مجموعات موسيقى الهيب هوب من خمسة عناصر، أولها “دي جي” الذي يتلاعب بالأنغام الموسيقية ويمزج بينها، والغرافيتي الذي نشأ مع الموسيقى وصار يميز كل مجموعة عن غيرها ويزين جدران المناطق التي تنتمي إليها، ثم تأتي رقصة “البريك دانس” التي هي نوع من التعبير الجسدي الذي ارتبط منذ نشأته بفن الهيب هوب ثم استقل بذاته لتصبح له مسابقات وجوائز عالمية. كذلك تعد موسيقى الراب عنصرا أساسيا في ثقافة الهيب هوب. والراب تقريبا يحتل المنطقة الرمادية بين الكلام والنثر والشعر والغناء. ولا يمكن أن ننسى الـ”بيت بوكس” وهو شكل من أشكال الإيقاع الصوتي الذي يعتمد بشكل رئيسي على أداء نغمات تشبه قرع الطبول والإيقاعات والأصوات الموسيقية باستخدام الفم، الشفتين واللسان، كما قد يتضمن أيضا الغناء والتقليد أحياناً، ومحاكاة العديد من الآلات الموسيقية.

ومنذ التسعينات، دخلت ثقافة الهيب هوب بتعبيراتها المختلفة إلى المجتمع التونسي عبر الفضائيات، وكان تأثير هذه الثقافة شائعا خاصة لدى الشباب، حيث انتشرت أزياء مغنيي الهيب هوب وأغانيهم وحتى قصات الشعر الخاصة بهم، ثم ازداد الانتشار مع الانفتاح التكنولوجي وظهور الإنترنت ومن ثم مواقع التواصل الاجتماعي.

هذه الموسيقى التي كانت تصنف ضمن الثقافات الصاعدة، أو ما يتّفق على تسميته علماء الاجتماع بـ”ثقافة الشارع”، تحظى بمكانة لدى الشباب التونسيين، وخاصة الذكور الذين يتابعون بشغف كل الإنتاجات الحديثة والمبادرات المحلية الناشئة، ومنها “إركز هيب هوب” التي استطاعت أن تتحول من مجموعة صغيرة من الموسيقيين والمغنين إلى مشروع فني متكامل، ملأ مسرح قرطاج الأثري خلال مشاركته في الدورة السابعة والخمسين للمهرجان.

المزود والهيب هوب

Thumbnail

لم تأت مجموعة “إركز هيب هوب” بمحض الصدفة، وإنما هي أحد مشاريع ستوديو “دبو” (مخزن) الموسيقية، المشروع الأم الذي اهتدى قائدوه إلى الاختلاف في الذائقة الموسيقية في الشارع التونسي، وقرروا البناء على هذا الاختلاف باعتباره أيضا أسلوب حياة ينادي به مغنو الهيب هوب وهو اختلاف لا يلغي العيش ضمن المجموعة وإنما “يلونها” ويجعلها ذات أوجه ونغمات متنوعة.

تتألف مجموعة “إركز هيب هوب” من “الرابرز” (مغنيي الراب) “فايبا” و”ماسي” و”تيغا بلاكنا” (وهي أسماء فنية) إلى جانب الفنان محمد علي شبيل القادم إليهم من عالم الفن الشعبي حيث يعرفه التونسيون بأغاني “النوب” ومن مشاركاته في إحياء تراث الأغاني الشعبية.

في عرضها الخاص، الذي كسر قاعدة تقول إن الفنان التونسي عاجز عن جذب الجمهور إلى مهرجان قرطاج الذي يسع نحو 7500 متفرج، قدمت مجموعة “إركز هيب هوب” أمام مسرح ممتلئ أغانيها التي تمزج بين نغمات مختلفة بين الروك، الجاز، الراب والمزود بالتعاون مع الموزعين جهاد الخميري ومكرم الرضواني اللذين منحا هذا المشروع الموسيقي طابعا إلكترونيا. لكنها لم تعتمد فقط على مخزونها الموسيقي وإنما اهتمت بتقديم عرض “هيب هوب” متكامل، بإخراج مسرحي يراعي التنويع بين الأداء والأزياء والرقصات المصاحبة للعرض.

لوحات كوريغرافية لراقصين شبان وأغان فردية وثنائية وأخرى ثلاثية منها “تروشيكة” و”حويتة” و”نفس” و”لعريبة”، هي كلها أغنيات قدمتها “إركز هيب هوب” وكانت سببا في تكوين هذه المجموعة.

وما يميز هذه المجموعة الموسيقية ويجعلها “تونسية” بامتياز هو تمسكها بخصوصيات الموسيقى الشعبية التونسية، حيث توظف الآلات الإيقاعية وخاصة آلة المزود في جل أغنياتها ما يضفي طابعا حماسيا فلكلوريا عليها.

مجموعة "إركز هيب هوب" قدمت أمام مسرح ممتلئ أغانيها التي تمزج بين نغمات مختلفة بين الروك، الجاز، الراب والمزود
مجموعة "إركز هيب هوب" قدمت أمام مسرح ممتلئ أغانيها التي تمزج بين نغمات مختلفة بين الروك، الجاز، الراب والمزود

والمزود هو آلة نفخ تصنع من جلد الماعز وتخاط بالكامل على شاكلة قربة مغلقة تحتوي على ثقبين من الأعلى لنفخ الهواء بالفم عبر قصبتين، وتخرج من أسفلها قصبتان أخريان بخمسة ثقوب، وقرنان يشكلان المزمار الذي تُعزف منه النغمات.

ويصوغ “المزاودي” (عازف الآلة) بهذه الآلة ما يريد من الألحان بأصابعه المتنقلة بين الثقوب بينما يضغط بذراعيه على الكيس المليء بالهواء وينفخ بفمه في الآلة.

ظهرت هذه الآلة في تونس مطلع القرن العشرين، وارتبطت دائما بأغنيات شعبية لم تغادر أسوار الأحياء الشعبية المهمشة إلا في مطلع تسعينات القرن الماضي، تتغنى كلماتها بمواضيع جريئة أغلبها عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية في البلاد، ما جعلها من “المحرمات” فنيا، حيث لم تكن تروق للسلطة السياسية ولا لغالبية العائلات المحافظة.

خلال السنوات الأخيرة، ظهر جيل جديد من الموسيقيين الشبان الذين يفتخرون بالموسيقى الشعبية، ويجتهدون في تطويع النغمات الحادّة لآلة المزود لتظهر في شكل جديد وترافق إيقاعات عصرية مثل الراب والجاز وتواكب تطور العصر الرقمي.

ويعرف الموسيقيون وأهل الاختصاص جيدا أن المزود من الآلات الصعبة التي يصعب دمجها في أنماط موسيقية مختلفة وخاصة العصرية منها، مثل الهيب هوب، لذلك يؤكد دوما فنانو مجموعة “إركز هيب هوب” أن موسيقاهم تأتي بعد جهد بحثي كبير، وتضمن لهم جمهورا “نخبويا” لا ينساق وراء الموجات الفنية السائدة وإنما يحترم كل جهود البحث والتجديد الموسيقي.

الهيب هوب كما يصفها الدكتور منجي الزيدي صاحب كتاب “ثقافة الشارع” والمتخصّص في سوسيولوجيا الشباب، “حكاية تونسية جديّة، فهي في الوقت نفسه ممارسات فنية ونمط في التفكير والوجود، وتقوم هذه الحركة على جملة من المواقف الإيجابية توجّه السلوك داخل المجموعة وتتجلّى في قيم من قبيل التحدي والاحترام والحيوية والتلقائية”.

والمراقب لمجموعة “إركز هيب هوب” يلاحظ أنها بالفعل تقود حركة فنية، أو ربما هي جزء من حركة فنية أوسع، تؤثر في الشباب التونسيين وخاصة شباب العاصمة، وتنقل لهم رسائل قيمية واجتماعية وثقافية وسياسية من خلال كلمات أغان قد لا يفهمها البعض، ولكنه إن بحث عنها وركز فيها لوجدها “شيفرات” ناقدة، موجهة، معدلة للسلوك وأحيانا هي ناصحة أو ساخطة. وما يزيدها تميزا والتزاما هو أنها تمزج بين صنفين من الفن، الرّاب والمزود، يبدوان مختلفين في الظاهر، لكنهما يشتركان في تاريخ من القهر السياسي المشترك الذي لا تزال ملامحه واضحة على مؤدييه ومحبيه.

14