"إخضاع الكلب".. صراع الإنسان المعاصر لترويض الوحش داخله

مصوّر هارب وكلب مهجن كل منهما يسعى لترويض الوحش داخل الآخر.
الخميس 2021/08/19
بين الكلب والرجل رفقة غريبة (لوحة للفنان سيروان باران)

يحاول الكثير من الروائيين الإيغال في العلاقة بين الإنسان والحيوان في أعمال سردية يفتح بعضها أبوابا عجائبية تخول له أن يتناول بطريقة خيالية قصة الإنسانية بل وحتى تحديد ماهية الكائن البشري. إنها تحاول مرة أخرى أن تغوص حتى في أعماق عوالم غريبة عنها وهي تستثمر كل العناصر الممكنة.

القاهرة - بين الإنسان والكلب حكايات كثيرة قوامها الوفاء والمحبة والأمان، لكن الكاتب المصري أحمد الفخراني ينسج بينهما علاقة جديدة في روايته “إخضاع الكلب” تتدرج من الخوف إلى الندية وصولا إلى القتل.

الرواية الصادرة في 154 صفحة هي التعاون الأول بين الفخراني (40عاما) ودار الشروق، والخامسة في رصيده الروائي بعد روايات “ماندورلا” و”سيرة سيد الباشا” و”عائلة جادو” و”بياصة الشوام” إضافة إلى مؤلفات أخرى.

تحكي الرواية عن رجل وكلب، والرجل هو المصور هارون عبدالرحيم الذي انتقل إلى مدينة دهب آملًا في إقامة حصن من العزلة يحميه من الشر ومن التجربة بعد تعرضه للخيانة. الرجل المصاب بفوبيا الكلاب يجد نفسه مضطرًا للحفاظ على كلب تركته له أسما، الفتاة الوحيدة التي استطاعت اقتحام عزلته المزعومة لتنطلق بعدها رحلة يحاول فيها الرجل إخضاع الكلب. لكن كيف يمكن لمن لم يستطع إخضاع الحياة أن يُخضع إحدى كائناتها؟

علاقة ملتبسة

رواية تتناول الإنسان المعاصر وحياته المتسمة بالعزلة والمليئة بالشكوك والخوف وعدم القدرة على التواصل مع الآخرين

تبدأ الأحداث فعليا في التعقد مع وجود كلب أسود يظهر في حديقة منزل الشخصية الرئيسية دون سابق إنذار، بعد أن طُرد الرجل قبلها بواسطة كلب وحشي بثلاثة رؤوس، ثم جلس بعدها على الشاطئ يقرأ رواية “السيد بالومار” للإيطالي إيتالو كالفينو ويريد أن يموت. لم تحتج الرواية أكثر من هذه المشاهد لتبين الاضطراب النفسي لشخصية البطل.

وتدور أحداث الرواية في مدينة دهب المصرية المطلة على البحر الأحمر والتي لجأ إليها المصور الفوتوغرافي هارون عبدالرحيم الذي قرر الانعزال وهجر حياته السابقة بعد اكتشافه خيانة زوجته وتشككه في نسب طفله الوحيد.

وعن اختياره لهذه المدينة البعيدة عن العاصمة يقول بطل الرواية “عندما اخترت دهب للإقامة لم أكن أبحث عن الهدوء وجمال الطبيعة، بل الضجر ورتابة الألوان، ظننت فيهما علاجي من تلاحق الصور وغواية الانتحار”.

ويعاني هارون من خوف شديد من الكلاب، وفي إحدى الليالي يجد نفسه محاصرا بقطيع مسعور لا ينقذه منه سوى ظهور أسما، تلك الفتاة الساحرة التي بزغت من العدم وشغلت فكره.

وقبل أن تتطور علاقته مع السمراء الجميلة ويعرف تفاصيل قصتها تفاجئه هي بالرحيل عن دهب تاركة له هدية غير مرغوب فيها على الإطلاق، كلب جيرمان مُهجن مع بلدي مربوطا في حديقة منزله اسمه ونيس ومعه رسالة من أسما تطلب فيها رعايته لأيام حتى تعود من سفر طارئ.

ينقلب عالم هارون رأسا على عقب أمام هذه المشكلة المضاعفة، فهو لم يعتد رعاية الحيوانات بشكل عام ولم يدرج هذا في خطته للانعزال إضافة إلى أن الضيف الثقيل هو أكثر حيوان يخافه.

يقول هارون في إحدى فقرات الرواية “لم آت إلى هنا إلا بحثًا عن نسيان كامل ونهائي، كأني لم أكن، كأني لم ألمس أحدًا، أو أخطو على الأرض، كأني لم أتعرض أو آتِ بالأذى، لم أنطق بالسوء ولم أفسد قرابيني إلى الحياة. كأني لم أكره أو أحب، لم أختر ولم أُختر، عازمًا على ألا أفعل شيئًا، ألا أصنع تاريخًا جديدًا، حُبًا، صداقات، أعداء. ألا أدخل معارك، ألا أنافس أحدًا، ألا أطمح لشيء، أن تُمحى مني الرغبات والشهوات، أن أرى كل ما قاتلت من أجله تافهًا وبائسًا، لم يستحق الثقل أو الخفة، الصد أو الهجران، أن أكون نسيًا منسيًا”.

يتجاهل هارون وجود الكلب تاركا إياه مربوطا في الحديقة ثم يبدأ في محاولة التخلص منه بشتى الطرق إلى أن يستقر الحال بهما لمحاولة التعايش معا وهي الرحلة التي تأخذ الشق الأكبر من الرواية.

يوغل المؤلف في تفاصيل العلاقة بين هارون وونيس حتى تظنهما انعكاسا لبعضهما بعضا، فهي تتأرجح بين العناد المشترك بين الاثنين والحب الذي يفتقده كل منهما خاصة هارون الذي يحاول تعويض غياب ابنه، وإن ظلت المعضلة الأساسية سعي كل طرف لترويض الوحش الذي بداخل الآخر.

هذه العلاقة غير المستقرة طوال الوقت تعكس نواقص ومتناقضات شخصية هارون وملامح اضطرابه النفسي الذي يتضح من خلال السرد أنه طوال الوقت يخلط بين الواقع والمتخيل وبين ما تراه عينه وما يدور في خياله بما في ذلك خيانة زوجته الأجنبية له مع أقرب أصدقائه.

ويتبلور مغزى اختيار التصوير الفوتوغرافي مهنة للبطل إذ دائما ما ينظر المصور إلى الأشياء من خلف العدسة، وهي إحالة متعمدة تجعل القارئ يشعر على امتداد الرواية بوجود حاجز بين هارون ومحيطه إلى درجة تثير الشك في صدقية ما يسرده برمته.

ومع عودة أسما في نهاية الرواية ينهار العالم الذي اعتقد هارون أنه بناه على مدى شهور مع ونيس “فتحت لها الباب، فوثب ونيس فوقها، احتضنها، تمرغا على الأرض، لم تهَب أسنانه التي عضتها برفق، كان حيا كما لم أره من قبل، لا يضع مسافة أو حاجزا بينه وبينها، لا أثر في عينيه لشيخوخة العجائز أو فظاظة الوحوش، بل أكثر الكلاب لطفا وودا على الإطلاق، كأني أمام كلب آخر لا أعرفه، كل حركة يصدرها تجاهها تنغرس في روحي كخنجر مسموم، كحكم قاس على وجودي أني لا أستحق الحب”.

راو لا يعوّل عليه

Thumbnail

في توصيفه للرواية يقول الكاتب أحمد الفخراني إن روايته تتناول الإنسان المعاصر وحياته المتسمة بالعزلة والمليئة بالشكوك والخوف وعدم القدرة على التواصل مع الآخر كما تطرح أسئلة عن معاني الصداقة والحب والأبوة.

يصوّر لنا الفخراني في رواية “إخضاع الكلب” الحياة عبر طبقة زجاجية شفافة، لكنها صلبة، جميلة لكنها قاسية. المصور هارون عبدالرحيم عاجز عن التواصل مع العالم، لا يعرف طريقة لنيل الحب سوى إرضاء نرجسية البشر بتخليدهم في صورة، يتواصل عبر الصور، وعبرها أيضاً يكوّن حياة. ومن هناك تبدأ مأساته.

وفي مناقشة للعمل عبر تطبيق زوم على الإنترنت قال “على امتداد مشروعي الروائي الذي شمل خمس روايات حتى الآن، كانت تشغلني فكرة رؤية الإنسان للعالم المحيط من خلال ما يدور في ذهنه هو وليس وفقا للواقع، وأرى أن هذه أصبحت سمة أساسية للفرد المعاصر”.

وأضاف “اتباع أسلوب الراوي الذي لا يعوّل عليه يبرز هذه الفكرة، وهو أسلوب يلازمني منذ أول رواية أصدرتها لكن أعتقد أن هذه أول مرة يأتي بهذا الإحكام”.

يعتمد هذا الأسلوب على طمر بعض الوقائع أو المعلومات بين السطور التي يتضح عند اكتمال الرواية تناقضها مع كلام الراوي ليكتشف القارئ كذبه أو عدم اتزانه النفسي وحينئذ يبدأ إعادة قراءة العمل بشكل مختلف.

وعن علاقته بالحيوانات وخاصة الكلاب قبل كتابة الرواية قال “كانت لي تجربة قصيرة مع تربية الكلاب والقطط لكني قرأت كثيرا عن الحيوانات، قرأت كتبا مترجمة وشاهدت فيديوهات ودرست الموضوع بشكل كبير”.

وأضاف “تواصلت أيضا مع أصحاب كلاب وتابعت كيف يعاملونها، أخذ الأمر مني جهدا كبيرا لكني استمتعت بالتجربة”.

15