إبراهيم دندل سليل مدينة غائرة يحملها معه في كل لوحاته

لم ينفصل إبراهيم دندل عن تدمر رغم هجرته منها، بل ظل يحملها معه في لوحاته التي يعرضها في سوريا وخارجها، فينبش في ذاكرة البلد الذي لا يقهر ويجعله مقدسا في فضاء لوحاته بكل أساطيره وشخوصه وأبعاده الجمالية الجديدة على عين الرائي.
”أنا من مدينة تدمر. لست فنانا أكاديميا ولا ناقدا تشكيليا، لكني أختزن في ذاكرتي شيئا ما من القيم التاريخية التي تحملها مدينتي السمراء والتي مازالت تقف بكل شموخ على مسرح التاريخ، وتقول للعالم ها أنا تدمر وأقول أنا إني وليد هذه المدينة”، بهذه الكلمات القليلة وهذه الجمل القصيرة والمعبرة جدا والتي تحوي معاني عميقة يقدم الفنان التشكيلي إبراهيم دندل (1973 – تدمر) نفسه لنا ولمتلقيه كسليل مدينة غائرة في الزمن، تجبرك أن توجه ذهنك في اتجاهها حتى ترتب مفردات حكايتها لتقول ما أثمرت وما حملت من أسرار تجعلك على صلة بالعالم الذي كان، بعالم لا تتمنى الخروج منه، ملخصا سيرته كفنان يطارد طريدته وكأنه في جولة سكون لا تفاجئه إلا ما حل بها أقصد بالمدينة من جور وخراب.
بكلماته تلك يعرف الفنان نفسه كإنسان يعزف مقطوعات موسيقية لا يمكن القبض عليها بسهولة، لكنها توحي بالكثير، فاحتياجات النفس للسماع إليها قد تصل إلى النشوة الروحية، ملخصا جذوره الممتدة في التاريخ وكاشفا ذلك السر الذي بقي يلاحق دندل منذ أن أصبح وجها من أوجه الإبداع في تلك المدينة المعجزة، وإلى خطواته في بلد الترحال واللجوء، فهو منذ 2015 وهو يعيش
في سويسرا بلد الطبيعة العذراء، لكن مدينته الأم لا تتركه قيد أنملة، فتنبت البهجة والحنين في أرضه، وتكسبه ذلك الإحساس الحقيقي الممتلئ بالحياة ومعانيها الكثيرة.
حقا إن هذا ما هو إلا نتيجة طبيعية لتلك المعايير العالية والآمال غير المحددة التي كانت لديه منذ عقود، فهو على دراية تامة بأن تحقيقها والسعادة التي ترافقها تتطلب خوض نضال سيبني نهاره، وما النتاج المدهش الذي يقدمه لنا إلا محاولاته النشطة ووجباته الصغيرة المكرسة التي تجعله ومتلقيه معه في تقبّل مخاطراته تلك للعثور على طريق من الممكن أن يدر عليه الوصول، لا كبحث عن خلاص سحري بل كتعامل إيجابي، بعيدا عن أي اضطراب قهري قد يرفع من حالات الدراما النفسية الانفعالية لتلك الأحاسيس والمشاعر المجروحة.
أقول كتعامل إيجابي وهو يحول كل الأسئلة التي قد تعترضه من أماكنها إلى أماكن يحددها هو لها، ويلازم كلا منها حتى يبدأ بتفكيكها تماما وعلنا تلد الرغبة العالية في عيش رائع، بعلاقة رائعة منفلتة من كل القيود التي لا
حصر لها، والسفر في المسافات مهما كانت طويلة، فدندل يحدد المجرى الذي سيسير فيه ويلفت تفكيره بأن الأمل لا يمكن أن يولد إلا بألم.
لم ينتظر دندل في بلاد اللجوء طويلا حتى يقول كلمته، فبعد عام فقط من وصوله إليها، أي في عام 2016، وبرعاية من الصليب الأحمر السويسري وفي مدينة بازل
حيث يقيم، قدم معرضه الفردي، المعرض الذي شق له طريقه في تلك البلاد، المعرض الذي جعله حين يتحدث ينصت الآخرون ليسمعوه جيدا، المعرض الذي كسر الروتين المتبع وبالحضور الضئيل عادة، المعرض الذي تحول إلى تظاهرة غير متوقعة، والتفاعل من الجمهور السويسري كان في أشده وبعضهم لم يستطع الدخول والمشاهدة من الزحام الشديد، ونشرت صحيفتا بازل وبازل لاند خبر المعرض.
وأفادت صحيفة بازل لاند بأن أعمال دندل تصدرت الصفحة الأولى للصحيفة، وهذا لم يحدث إلا لفنان واحد وكان ذلك في عام 1980، كما بثت القناة الرسمية للفيدرالية السويسرية خبرا عن المعرض في نشرتها اليومية، كما زار المعرض النحات السويسري المعروف لودفيغ شوكر وتمنى لو كان قد زار تدمر من قبل.
معرض بهذا الصدى لا يمكن إلا أن يدفع بدندل ليضع قدمه في المكان الصح الذي يليق به.
هنا تتضح أكثر علاقة دندل بتدمر، تلك المدينة التي يقال عنها عروسة البادية السورية، والتي كانت تقع عند نقطة تقاطع عدة طرق تجارية في العالم القديم، على طريق الحرير والذي كان يعد أهم الطرق التجارية القديمة والتي امتدت من الصين غربا إلى أوروبا شرقا، وتعني باللغة الآرامية (لغة سوريا القديمة) بالميرا ومعناها المعجزة، وباللغة العمورية تعني البلد الذي لا يقهر، تقع على بعد 215 كم شمال شرق دمشق، وهي واحة كبيرة تحيط بها أشجار النخيل.
وعلاقة دندل بتدمر ليست علاقة إعجاب عابرة ولا علاقة نبش ذكريات طفولته المنسية، ولا بتلك الذكريات العادية التي يحملها أي منا عن المدينة التي ولد وعاش وكبر فيها، علاقته بها هي علاقة حب وعشق وهيام، فإلى جانب الشحنة العاطفية الكبيرة التي تضخها تلك المدينة فيه فهي تلعب المعالج بذاكرته المكبوتة، والحافز للاوعيه الذي به يتمكن من تفسير معاناته العامة، وتسمح له بتحمل مسؤوليته اتجاهها وما جرى فيها، وفي حقها، فهي شهقاته ونبضاته وعشقه الممتد في الروح لآخر آهاتها وأعمقها، فكل منهما محظوظ بالآخر مهما ساءت الأحوال بهما أو بأحدهما، فهو محظوظ بها يحصي جولاته في سيرتها الذاتية، لا يمكن أن تذوق عيناه النوم ما لم تفح من تلك الأريكة التي ينام عليها رائحتها، فلا يمكنه التحرك دونها، هي مرافقته الدائمة، قبل خروجه إلى ديار الاغتراب وبعدها، ويكفي أن نسرد عناوين معارضه وكذلك عناوين أعماله حتى ندرك درجة ذلك الهيام عنده، ففي عام 2014 وفي معرضه الأخير قبل خروجه، وفي صالة الشعب بمدينة حمص كان تحت عنوان “تدمر حكاية الشمس”.
علاقة دندل بتدمر ليست علاقة إعجاب عابرة ولا علاقة نبش في ذكريات طفولته المنسية بل هي علاقة حب وعشق
وفي البلاد التي حل عليها لاجئا قدم دندل معرضا باسم “رسائل من تدمر”، وهو يقدم معرضه الآن في مدينة أرليسهايم السويسرية تحت عنوان إيحاءات من تدمر وفيها يشتغل على موضوعين حسب قوله، الأول حول المنسوجات التدمرية القديمة، والثاني عن الوجوه التدمرية.
ومن سردنا لعناوين بعض أعماله سنقتنع بقوة تلك العلاقة نذكر من تلك العناوين “من نخيل تلك المدينة التي اسمها تدمر، من تحت قوس تلك المدينة التي اسمها تدمر، قمر تلك المدينة التي اسمها تدمر، انتظار في تلك المدينة التي اسمها تدمر، من هنا.. رسالة … عندما كان ملكا..”. ومع إضافة في تلك المدينة التي اسمها تدمر على كل كلمة أو جملة خاصة بالعنوان، تدمرية في بلاد الشتات، خلاصة القول هنا إن علاقته بتدمر هي حالة من الذوبان، لا يمكن أن يبلغ السعادة دونها، فهي بوصلته وفرحه وحزنه وأغنيته التي يرددها دائما ولا تنتهي، وهي نهره الذي منه ينهل ماءه وزاده، ولهذا ليس غريبا على دندل وعلينا حين نرى أنها من أولى ترتيبات مشروعه الإبداعي.
وبعد سنوات من الترحال والاغتراب بقيت تدمر هي هاجسه في مجمل أعماله وخياره الوحيد، فسطوتها عليه تجعله يمضي عميقا معها في كل تجربة يخوضها، فلا يمكن أن نقرأ عملا من أعماله دون أن يكون لها الحضور الكبير، فهي العاشقة له أبدا، وهو العاشق لها أبدا، ولهذا من العبث إذا حاولنا أن نحرر الدال من سلطة المدلول أو العكس، فالتوليف بين مختلف أجزائها في حالة من التجانس وإن كانت بعض العقد قد تظهر هنا أو هناك، وهكذا يمكن حل صور الحقائق محل الحقائق الفعلية، وقراءة تلك الصورة التي ستترسخ تحت الضربات الموجعة لريشته لا بد أنها ستساعدنا كمتلقين، ستساعدنا في قدرتنا على إبراز تلك المحاكاة كنماذج حية تحمل بين أمواجها رموز وتراث تدمر.

ودندل في توقه لرسم القطيعة مع النزعة الذاتية، رغم يقينه بفردانية الإبداع وذاتيته، ويراها كيف تتهاوى في الروحانية التي أوجدها من تجبر الحضور المقدس لمدينة تدمر، بكل تاريخها وأساطيرها، فبصمتها عليه مازالت قوية، فهو مازال يستمد من إلهامها، وهذه حكمة صادرة من ذاته، من دواخله الغارقة في تلك المدينة التي اسمها تدمر، لهذا تلد أشكاله وكأنها أجزاء منها، مقتنصة من روحها وماضيها، من شموخها وحاضرها، تلد شخوصه وكأنها ترتل أناشيدها الخالدة.
هنا يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار تلك الخصائص التي هي على صلة وثيقة بالمشهد البصري العام وبمظاهرها، والحالة هنا ليست استثنائية، فما يمكن أن يسمى قوى أو عناصر خاصة ضمن الحالة الأكثر شمولية قادرة أن تكتشف الخط ذي الخصائص اللطيفة، وذي الطبيعة التكاملية حين تساهم في خلق أشكال بأبعاد باطنية تعي على نحو كبير بتحمله للجمال المتحرر والذي يمثل بعضها كأعظم روائعه، فهو لا يكفي أن يدرس الحقائق بخلفيتها وما تحمله، بل بما ينتجه من وجوه لها كل مظاهر التاريخ وسحره، لها مسكنها على أجنحة من نخيل.
ومن المهم أن نشير إلى أن دندل قبل الحرب ومع الفنان أيمن درويش وبمشاركة 250 طفلا من مدارس تدمر نفذ لوحة طويلة جدا بطول 250 مترا وبعرض متر واحد، عرضت اللوحة في الشارع الطويل لقوس النصر في تدمر، كما عرض جزء منها في المتحف الوطني بدمشق، وفي صالة الرواق بدمشق، وقدم الكثير من المعارض الفردية ومن مشاركاته الجماعية، وكان يواظب على المشاركة السنوية في معرض الخريف منذ عام 2009 وإلى غاية 2014.