أي رسائل لشباب تونس من وراء العزوف عن الانتخابات

في ردة فعل على فشل الطبقة السياسية نزل الشباب بثقلهم في انتخابات 2019 وكانوا محددين في ترجيح كفة قيس سعيد. لكن في انتخابات أكتوبر 2024 كانت مشاركتهم محدودة وبشكل لافت، ما يطرح السؤال عن سر هذا التراجع، وهل أن الشباب عازفون في المطلق عن السياسة والسياسيين أم أنهم لا يجدون ما يشدهم إليها.
قبل أن تغادر تونس محطة الانتخابات الرئاسية من المفروض أن تجري الدوائر الرسمية عملية تقييم لها خصوصا من جانب نسب المشاركة والشرائح العمرية التي شاركت فيها حتى تستفيد منه في أي انتخابات قادمة. والأهم أن تنظر إليه كرسالة من الشباب إلى الطبقة السياسية التي تشكلت بعد 2011 وإلى الآن.
العزوف عن المشاركة ليس موقفا من قيس سعيد، الذي سبق أن حظي بدعم شبابي واسع، هو موقف من العقلية السياسية عموما، التي تتعامل مع الشباب على أنهم جمهور انتخابي مهم، وتطلق تجاههم سلسلة من الوعود دون أن تنفذها. كما أن أداء السياسيين بعد الفوز بالانتخابات وعقلية إدارتهم للسلطة بثقافة وآليات قديمة أحد أسباب هذه القطيعة.
◄ قد يتيح الاستقرار السياسي وغياب الصراعات والهوس بالاستقطاب للدولة أن تفتح عينيها على سبل جديدة لشراكة مع الشباب تضع أسس تونس التي تفكر في المستقبل بأدوات المستقبل
إلى حد الآن، تسيطر العقلية السياسية التي تشكلت في ستينات وسبعينات القرن الماضي على السياسة والدولة وتهيمن على أداء المؤسسات، وتستعيد خطابات ومعارك قديمة لا يتفاعل معها الشباب لأنها لا تعنيهم ولا يفهمونها، ما يدفعهم إلى البحث عن ملاذات أخرى للحوار وإظهار مواقفهم، مثل منصات الدردشة المغلقة، أو مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وإكس التي صارت بديلا عن فضاءات الحوار التقليدية مثل المقاهي ودور الثقافة والشباب والأحزاب والجمعيات المدنية. أصبحت هناك مقاه افتراضية، ودور سينما افتراضية، ومساجد افتراضية.
هناك قطيعة بين الأجيال، هذا منطقي، لكن القطيعة تضاعفت واتسعت في العقدين الأخيرين مع الثورة التقنية والاتصالية. الشباب يهربون إلى عالمهم الجديد فيما تستمر العقلية السياسية المهيمنة على الحكم في احتكار إدارة الملفات التي تخص الشباب بأدواتها الخاصة التي تعود إلى زمن قديم.
المفاهيم باتت تختلف جذريا. الديمقراطية تعني للطبقة العمرية المسيطرة على المشهد السياسي تأمين الحكم، لكن عند الشباب تبدو تلك الديمقراطية واجهة من واجهات الهيمنة العمرية المستمرة من عقود على الشأن العام. الديمقراطية لدى الشباب تكمن في تمكينهم من التفكير بشكل مختلف والاستماع إلى مقارباتهم وتأمين شراكة تتيح لهم أن يكونوا فاعلين، وليس فقط من أجل إظهارهم في الصورة كجزء من المشهد وكأنهم ورود زينة بلاستيكة.
قد تحتاج الدولة إلى إجراء استشارة وطنية تسأل فيها الشباب عن آليات تفكيرهم وماذا يريدون وكيف ينظرون إلى تغيير الواقع في السياسة والمؤسسات، وكيف يمكن استقطابهم لمنظومة الحكم وبأي طريقة؟
النظام البرلماني الكلاسيكي فشل في استقطابهم. النظام القاعدي الذي يريد الرئيس سعيد التأسيس له من خلال قلب الهرم، أيّ تصعيد الناس من الأحياء إلى المؤسسات بهدف توسيع دائرة الشراكة في السلطة، لا يبدو هو أيضا قادرا على استقطاب الشباب. الإشارات الأولى تقول إن المجالس المحلية التي تأسست وفقا لهذا النظام قد تسللت إليها تقاليد الحكم السابقة بزيادة نفوذ العروش (العشائر) و”الشعب” التي كانت نواة الحكم ما قبل 2011.
من هم في منتصف العمر وأكبر يؤيدون الإنجازات الملموسة التي تقوم بها الحكومة مثل الإعمار والبنى التحتية والتحسينات البلدية، لكن الشباب لا تستهويهم مثل هذه المشاريع. وهم يحتاجون إلى مقاربة خاصة.
◄ فيما تدفع الظروف الاقتصادية وسوء إدارة الأزمات البلاد إلى الوراء، فإن القطيعة تزداد اتساعا مع شباب باتت أحلامه كبيرة
السؤال المهم، كيف ستقدر السلطة الحالية على استقطابهم وبأيّ آليات؟
الآلية الأكثر وضوحا هي فكرة الشركات الأهلية. إلى حد الآن المشاريع المعروضة تقليدية من مثل فلاحة ونقل، يمكن أن تستهوي الشباب المنقطعون عن الدراسة أو محدودو التكوين، لكنها لا تعبّر عن خريجي الجامعات في الاختصاصات المتطورة. ومن المهم أن يتم توسيع دائرة اهتمام هذه النوعية من الشركات لتشمل المجالات التقنية التي تشهد موجة كبيرة من هجرة خريجيها في ظل غياب الفرص في البلاد.
وبحسب دراسة أجراها “الباروميتر العربي” قبل عامين، فإن 7 من كل 10 شباب تونسيين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاما يريدون الهجرة.
بالتأكيد، فإن الشركات الأهلية، ورغم الاهتمام الرسمي والتسهيلات التي تقدم لإنجاحها، إلا أنها تظل عنصرا صغيرا في قائمة الخيارات التي على الحكومة التخطيط لها لاستقطاب الكفاءات التي تغادر إلى الخارج بحثا عن ظروف عمل وعيش أفضل.
هذا الخيار سيأخذ وقتا أطول، فهو مرتبط بتطوير الاقتصاد وانفتاحه أكثر على التكنولوجيات الحديثة، ويتطلب تمويلات كبيرة. لكن من الممكن أن تساعد الحكومة في تحقيق ذلك بتحسين شروط الاستثمار الداخلي والخارجي وتشجيع المستثمرين على تركيز أنشطتهم في تونس لما تمتلكه من جامعات قادرة على تخريج كفاءات بمستوى علمي متطور قياسا بجامعات محيطها الإقليمي، ما يفسّر سهولة استقطاب الشركات الأجنبية لخريجي الجامعات التونسية وفتح أبواب الهجرة السريعة أمامهم.
لكن هل أن مطالب الشباب محصورة فقط في ملف التشغيل، وأن توفيره يمكن أن يجعلهم يستقرون في البلاد ولا يغادرون إلى الخارج؟
◄ قبل أن تغادر تونس محطة الانتخابات الرئاسية من المفروض أن تجري الدوائر الرسمية عملية تقييم لها خصوصا من جانب نسب المشاركة والشرائح العمرية التي شاركت فيها حتى تستفيد منه في أي انتخابات قادمة
ما تنشره وكالات الأنباء عن الشباب الراغبين في الهجرة، والفيديوهات التي تصدر عن شباب يريدون المغامرة بالهجرة غير النظامية أو من نجحوا في ذلك تتحدث عن خيبة عامة من المناخ الاجتماعي. صحيح أن الشغل وظروف الحياة عنوان رئيسي، لكن هناك إحساس بأن البلاد بعد ثورة2011 بصفة خاصة لم تعد قادرة على استيعاب طموح الأجيال الجديدة.
وفيما تدفع الظروف الاقتصادية وسوء إدارة الأزمات البلاد إلى الوراء، فإن القطيعة تزداد اتساعا مع شباب باتت أحلامه كبيرة مع ما تنشره مواقع التواصل والمنصات الخاصة من مستوى مغاير يعيشه نجوم المجتمعات الخارجية من رياضيين وفنانين.
وفي تونس، أيضا، تصعد فئة جديدة من المؤثرين والمؤثرات إلى الواجهة بحالة عيش صادمة لمن دروسوا بمختلف مراحل التعليم وتخّرجوا من الجامعات بشهادات علمية ذات شأن، ولكنهم يطاردون فرص العمل.
هذه الصدمات تضغط على الشباب من أجل الهجرة إلى الخارج هروبا ولو عن طريق قوارب الموت مع أنها مكلفة وغير مضمونة ليس فقط من جانب صعوبة “الحرقة” ولكن من جانب أوروبا التي باتت في حالة استنفار لصد موجات الهجرة وإعادة “الحرّاقة” إلى بلدانهم.
قد يتيح الاستقرار السياسي وغياب الصراعات والهوس بالاستقطاب للدولة أن تفتح عينيها على سبل جديدة لشراكة مع الشباب تضع أسس تونس التي تفكر في المستقبل بأدوات المستقبل وليس بالحنين إلى الماضي الفكري والسياسي، وهو ما يمثل القطيعة الغائبة لعقود وخاصة بعد 2011 بأن ترتقي السياسية لتفكر بعقلية الشباب بدلا من أن تأسرهم بأدوات الماضي.