أي جدوى لحوار وطني في تونس

نشط الحديث عن الحوار الوطني في تونس فجأة، دون مقدمة ولا مؤشرات من جهة السلطة التي يطلب منها أن تفتح باب الحوار. ما الذي جد حتى يصبح الحديث عن الحوار الوطني أمرا ملحّا وهدفا للنقاش على مواقع التواصل الاجتماعي، التي صارت هي الإعلام البديل بعد أن اختار الإعلام الحكومي والخاص “الحياد” ونأى بنفسه عن السياسة والسياسيين على عكس فورة الجدل والحوارات بعد ثورة 2011.
هناك تسريب من جهة مّا يقول إن الرئاسة التونسية شرعت في إجراء اتصالات بعدد من الشخصيات السياسية وممثلين عن أحزاب ومنظمات مدنية، ترتيبا لإجراء حوار وطني في مارس يستثني حركة النهضة الإسلامية. الصياغة الذكية للتسريب، وبالأحرى من يقف وراءه، جعلت الناس يناقشون موضوع حضور النهضة من عدمه، وليس فكرة الحوار من أصله.
هل أن الرئيس قيس سعيد الذي سبق أن حمّل الأحزاب مسؤولية أزمات ما بعد 2011، راجع نفسه ووجد أن الحوار الوطني مهمّ أم أن هناك أحزابا أو شخصيات افتعلت التسريب لتضمن التفاتة من الرئيس سعيد لها وتخترق حالة الصد والتهميش تجاهها منذ 25 يوليو 2021، والكثير منها كان داعما لقيس سعيد، ومسوّقا بحماس لتطبيق الفصل 80 الذي أتاح للرئيس مخرجا لحل البرلمان وقتها.
◄ من الصعب أن يستجيب الشعب في المرحلة الراهنة لدعوات التظاهر أو الاحتجاج في الوقت الذي اقتنع فيه بأن الثورة هي السبب المباشر لأزماته الاقتصادية والاجتماعية
جاء التسريب في توقيت مفهوم ويرتبط بالتطورات في سوريا والمخاوف الجدية إقليميا من “ربيع مسلح” كحلقة ثانية من “ربيع” 2011. هناك دول مثل الجزائر دعت إلى حوار وطني على لسان الرئيس عبدالمجيد تبون، دول أخرى مثل مصر والأردن لم تخف قلقها من توترات قد تكون “جاهزة” ومدعومة من الخارج لإنتاج مشهد سياسي جديد، أو للضغط على الدول للمضي في الانفتاح ولو بشكل محدود على معارضيها.
هل تأثرت تونس بالتطورات الإقليمية وانتابتها المخاوف التي عرفتها بعض الدول. ليس الأمر جليا، ولكن الرئيس سعيد تحدث في أكثر من مرة عن وحدة وطنية “تتكسّر على جدارها كل المحاولات اليائسة لضرب الاستقرار.” هل كان يقصد بهذه الوحدة الانفتاح على المعارضة أم أن هناك شيئا آخر.
المؤكد أن قيس سعيد لم يشر تصريحا ولا تلميحا إلى مراجعة موقفه من الأحزاب، سواء التي ما تزال تصر على أنها قريبة منه وأنها الحزام السياسي للخامس والعشرين من يوليو والداعم لمسار 2021 أو تلك التي تعلن معارضتها له
لكن السؤال الأساسي هو ما الهدف من الحوار؟ هل هو لقاء لتجميع الكل لمجرد التجميع أم له غاية، وما هي هذه الغاية؟ كما أنه يفترض أن أيّ حوار يتم بين طرفين راغبين في الحوار وساعيين له على الأقل من حيث الاستعداد النفسي. وهذا غير واضح بالمرة، فمن ناحية المعارضة، في أغلبها، فهي تنام وتصحو على انتقاد قيس سعيد والتقاط أيّ تفاصيل خبرية من هنا وهناك عن أرقام الاقتصاد والقروض والضرائب إلى الجرائم الاجتماعية؛ (بما في ذلك الجرائم الأسرية وحوادث الطرقات)، إلى مسائل البنى التحتية وتوترات قطاع التعليم، من أجل اتهام حكومته بالتقصير.
من جانبه، لا يبدو أن قيس سعيد قد غيّر موقفه من الأحزاب، القريبة والبعيدة، ولا من اتحاد الشغل، حتى يدعو الجميع إلى حوار وطني ويلتقي بهم ويصافحهم. وبالنتيجة، فإن شروط الحوار الوطني غير متوفرة إلا إذا كان المقصود منها مطالبة قيس سعيد بالإعلان عن إطلاق سراح السياسيين الموقوفين على ذمة تهم غير سياسية، وكذلك الاعتراف بأنه يحتاج إلى دعم مختلف القوى السياسية والحزبية للخروج من الأزمة. وهذا لا مؤشر عليه خاصة أن مشكلة قيس سعيد الآن ليست سياسية بل كيفية تحريك دواليب الاقتصاد في ظل الظروف الصعبة وغياب التمويلات.
◄ انتهازية بعض المجموعات السياسية في علاقتها بالسلطة بالدعوة إلى حوار وطني لا تمنع السلطة من أن تفكر في حوار وطني بين مختلف الفاعلين في البلاد
لا يمكن أن يخرج الرئيس، الذي بنى النظام القاعدي وأجرى محطات انتخابية مختلفة لتدعيم هذا النظام، ليقول إنه تخلى عن أفكاره وتعالوا أيها المعارضون نعيد اللعبة إلى الصفر ونعمل حوارات وانتخابات وتكتلات.
ما قصده قيس سعيد بتدعيم الوحدة الوطنية في الفترة الأخيرة ليس موجها إلى النخبة السياسية بل إلى الشارع التونسي حتى لا ينجرّ إلى الاحتجاجات التي قد تكون جهات ما تجهز لها مستفيدة من التغييرات الأخيرة في المنطقة تحت عنوان “الربيع السوري”، خاصة بعد محاولات تحريك قطاعات مثل التعليم، مع قناعته بأن الأحزاب لم تعد تقوى على خوض حراك جديد لأن “الربيع” السابق ولعبة الديمقراطية الصورية وماراثون الانتخابات والصراعات في البرلمان لم تترك لها ما به تقابل الناس وتحكي معهم وتعدهم، وحتى أنصارها فشلت في إقناعهم، وهو ما يفسر موجة الاستقالات والانشقاقات والانسحاب من الحياة العامة لدى الكثير من قادتها ومنتسبيها، كما حصل داخل حركة النهضة الإسلامية.
من الصعب أن يستجيب الشعب في المرحلة الراهنة لدعوات التظاهر أو الاحتجاج في الوقت الذي اقتنع فيه بأن الثورة هي السبب المباشر لأزماته الاقتصادية والاجتماعية، وأن الديمقراطية، بالصورة التي قدمت له خلال عشر سنوات، تضر بعيشه ولا تفيده.
كما أن اتحاد الشغل، الذي لعب دورا في إنجاح “ربيع” 2011، لم يعد هو الاتحاد القديم، فهو يشهد صراعات وخلافات وتراجعا في التأثير داخل المنظمة نفسها فكيف يمكنه أن يلعب دورا ما في تحريك الشارع، حتى وإن أوحى بعض قادته بذلك فلا يعدو الأمر أن يكون مجرد تنفيس.
في صالح من يصبّ التسريب، الذي يتحدث عن اتصالات تقوم بها السلطة التونسية لإجراء حوار وطني يستثني حركة النهضة؟ التحليل المنطقي يشير إلى أن المستفيد من هذا هي الأحزاب والمجموعات الصغيرة التي تريد أن تلفت نظر الرئيس سعيد إليها مجددا بعد أن سعت إلى ذلك طويلا من خلال إطلاق تصريحات داعمة لقيس سعيد ومسار 25 يوليو 2011 ووصل الأمر بالبعض منها إلى التحدث باسمه وشرح أفكاره كما لو أنها مكلفة بمهمة ناطق رسمي أو مفسر لخطط الرئيس والحكومة.
◄ شروط الحوار الوطني غير متوفرة إلا إذا كان المقصود منها مطالبة قيس سعيد بالإعلان عن إطلاق سراح السياسيين الموقوفين على ذمة تهم غير سياسية
ورغم اتضاح موقف الرئيس سعيد من الأجسام الوسيطة بما في ذلك الأحزاب واتحاد الشغل، فإن بعض المجموعات التي ساندت 25 يوليو وتحمست له وسعت لركوبه والاستفادة من نتائجه، ما تزال تتمسك بالانفتاح على الرئيس. فإغلاق الباب بينها وبين مؤسسة الدولة دفعها إلى أزمات داخلية وخلافات وانشقاقات كما حصل لأحد فصائل التيار القومي.
المنتمون لهذا الفصيل اتهموا قيادته بأنها غامرت بدعم قيس سعيد والاصطفاف وراءه دون أن تكسب شيئا، ما أضعف موقف أنصاره في القطاعات التي يعملون فيها خصوصا أنه يسيطر على بعض النقابات.
لكن انتهازية بعض المجموعات السياسية في علاقتها بالسلطة بالدعوة إلى حوار وطني لا تمنع السلطة من أن تفكر في حوار وطني بين مختلف الفاعلين في البلاد. والحوار لا يعني فقط السياسيين. هناك قطاعات من المفيد أن تنفتح عليها الدولة بشكل دائم للاستماع إلى أفكارها مثل رجال الأعمال والأطراف الفاعلة اقتصاديا وماليا وتجعلهم في صفها ليكونوا ضمانة لإنجاح سياسة الاعتماد على الذات.
وبالنتيجة، فإن الحوار الوطني في تونس ممكن وضروري على أن يحقق بعض الشروط من بينها الواقعية والوضوح والرغبة في تحسين فرص البلد على مجابهة التحديات، والتخلي عن المزايدات وخطاب التخوين، وأن يكف البعض عن التحرك المستراب واعتماد لعبة الغميضة (الاستغماية) للتغطية على خططه وارتباطاته.