أيام قرطاج الموسيقية مزاميرها لا تطرب

تظاهرات تونسية كثيرة تحتفي بـ"الغريب" وتهمل القريب.
الخميس 2023/01/26
لا يمكن صنع مهرجان في غياب الهوية

تتعدد التظاهرات والمهرجانات الفنية والثقافية في تونس، التي رغم إمكانياتها المادية المحدودة والواقع الاقتصادي الصعب الذي تمر به، تواصل دعم قطاعات الفنون وتنظيم التظاهرات الدولية، محاولة لترسيخ مكانة تونس الرائدة في هذا المجال، ولكن لا تخلو بعض التظاهرات من ضرورة إعادة التقييم على غرار أيام قرطاج الموسيقية.

ما سر عقدة “أيام” التي يطلقها التونسيون على مهرجاناتهم، خصوصا تلك التي تحمل دعم ورعاية وزارة الثقافة؟

هل هي مجاراة لسنة الآباء المؤسسين لمهرجان السينما في ستينات القرن الماضي كالراحل الطاهر شريعة ورفاقه أم أن الأمر لا يعدو أن يكون أشبه بـ”الأصل التجاري” الذي يضمن مشروعية غير واثقة من نفسها، وتختفي تحت زي موحد يحمل الشارة الرسمية للدولة راعية كل نشاط ثقافي مهما يُشكك في جدواه؟

عروض معروفة

عقدة الاحتفاء بالغريب على حساب القريب يبدو أنها مازالت تتحكم في الكثير من المهرجانات التونسية بدوافع عديدة

لماذا “الأيام” دون الليالي أو النهارات أو الأسابيع أو الملتقيات أو غيرها، ولماذا اسم قرطاج دائما؟ ولماذا في العاصمة تونس بالتحديد، والحال أن للفنون الموسيقية في هذه البلاد أكثر من منشأ غير العاصمة، على غرار حلب في بلاد الشام، والإسكندرية في مصر، وفاس في المغرب، ووهران في الجزائر، والبصرة
في العراق؟

هل هي البصمة التي لا بد منها، وكأن تونس التي تبلغ من العمر أكثر من  سبعة آلاف عام أو يزيد، لا تعترف إلا بالحقبة القرطاجية الفينيقية القادمة من الساحل السوري للمتوسط؟

هي جملة أسئلة نطرحها “على الحساب قبل قراءة الكتاب”، كتاب الدورة الحالية لهذا المهرجان الموسيقي الذي تأسس عام 1986 ويقام في العاصمة في شهر مارس من كل عام.

ومهما يكن من أمر، وقبل أن يتهم المرء بوضع العصي في الدواليب فور انطلاقتها، فإن مجرد إقامة هذه التظاهرة بعد التحرر من شبح كورونا، تُعتبر في حد ذاتها مكسبا لكم هائل من الجمهور والموسيقيين على حد سواء، ولكن ليس كلهم.

فن نبيل يحمل قيما سامية
فن نبيل يحمل قيما سامية

الانتقائية تبدو واضحة للعيان في هذا المهرجان الذي ترأسه أستاذة أكاديمية لا يشك في كفاءتها وهي الفنانة درصاف حمداني، التي قالت إن أيام قرطاج الموسيقية هي منصة لالتقاء المبدعين الموسيقيين والتعريف بالأعمال الموسيقية والمشاريع الجديدة وإبراز المواهب الصاعدة، مؤكدة بأن البرنامج يشتمل على 40 عرضا من 18 دولة ويتضمن سلسلة من اللقاءات المهنية لتبادل المعارف والخبرات إلى جانب تكريم عدد من الفنانين المعاصرين والراحلين، ولكن الغاية التجميع ـ وكيفما اتفق ـ لا يصنع مهرجانا في غياب الهوية.

هؤلاء جميعا يمكن جمعهم على منصة إلكترونية واحدة دون أن تتكبد الدولة ذات الميزانية المنهكة ما يقارب المليون دولار من أموال دافعي الضرائب، ثم إن عروضا كثيرة باتت معروفة إن لم نقل مستهلكة فما الغاية من تظاهرة موسيقية لا تأتي بالجديد المبتكر؟

الأمر الثاني يتمثل في الجانب المتحفي الذي باتت تتباهى به بعض المهرجانات الثقافية، والحال أنه يدخل في خانة التراث وليس النشاط الثقافي، فما الفائدة وما الجديد مثلا، في استحداث معرض للفاعلين في مجال الصناعات الموسيقية، ويهدف إلى التعريف بالمنتجات الموسيقية وتلاقي هواة جمع الآلات الموسيقية وإصلاح وبيع هذه الآلات؟

هو أمر مفيد بلا شك، للمهتمين والحرفيين، وإنما ليس إلى تلك الدرجة التي يحتل فيها جزءا من اهتمامات المهرجان الذي يمثل ملتقى إبداعيا أولا وأخيرا.

أما الأمر الأهم، والذي يطرح دائما عند كل تظاهرة ثقافية إبداعية، فهو تغييب أبناء البلد من المبدعين، والاكتفاء بالملمعين سلفا والمكرمين سابقا، وكأننا في معرض للصناعات التقليدية.

أين الذين يطمحون إلى إبراز إبداعاتهم من الجيل الجديد، وهل أن مزامير الحي لا تطرب دائما، كما هو الحال في بقية التظاهرات الثقافية ذات الطابع السياحي؟ ثم ما فائدة التعريف بالمعرف كالموسيقي المصري سليم سحاب أو تقديم عرض لمجموعة “الهاند بان” بقيادة الموسيقي وعازف الدرامز أنس الحلبي؟ هل يريد المهرجان أن يزيد هؤلاء شهرة على حساب المواهب المحلية الشاب التي تنتظر فرصة الظهور والتعريف بإنتاجها أمام الجمهور؟

الاحتفاء بالغريب

علة الثقافة في تونس التي عرفت بتألقها الثقافي رغم أزماتها الاجتماعية والاقتصادية، تتمثل في الذهنية المسيطرة للمسيرين
علة الثقافة في تونس التي عرفت بتألقها الثقافي رغم أزماتها الاجتماعية والاقتصادية، تتمثل في الذهنية المسيطرة للمسيرين

يبدو أن عقدة الاحتفاء بالغريب على حساب القريب، مازالت تتحكم في الكثير من المهرجانات التونسية بدوافع عديدة، أبرزها الاعتقاد بأن التوسع في أي تظاهرة ثقافية يزيد من هيبة وثقل تلك التظاهرة، بالإضافة إلى عقد النقص التي تنتج عنها حالة من الاستعلاء غير المبرر على مواهب البلد المستضيف.

هذا الأمر، وإن بدا معكوسا إلى حد التقوقع في بلد مثل الشقيقة مصر، فإنه يبرز ـ بالمقابل ـ اعتزازها بتراثها المحلي وتفضيلها لأبناء البلد الذي يحتل الريادة في العالم العربي.

أما في تونس، وإن ذهبت بعيدا نحو الموضوعية والانفتاح على التجارب الخارجية، فإن القائمين على المهرجانات فيها، يمارسون انفتاحهم على حساب أبناء بلدهم من المواهب الشابة.

هي مسألة في غاية التعقيد، وتحتاج إلى أكثر من دراسة تتضمن حتى الأبعاد النفسية لدى القائمين على التظاهرات الثقافية، ذلك أن لا أحد ينكر ما يغدقه هذا البلد متواضع الإمكانيات، على المشاريع الثقافية، ولكن إلى أين تذهب هذه الأموال؟

الأمر الأهم، والذي يطرح دائما عند كل تظاهرة ثقافية إبداعية، فهو تغييب أبناء البلد من المبدعين، والاكتفاء بالملمعين سلفا والمكرمين سابقا

علة الثقافة في هذا البلد الذي عرف بتألقه الثقافي رغم أزماته الاجتماعية والاقتصادية، تتمثل في الذهنية المسيطرة على تسيير الشؤون الثقافية بكل ما تحمله من عقد ومحسوبيات ومصالح ضيقة تقتسم الغنيمة وترمي بالفتات للمواهب الشابة.

كان الأجدر بمهرجان موسيقي في بلد يعج بالمواهب مثل تونس، أن يكون أكثر ثقة بنفسه وفنانيه وجمهوره، وليس السعي نحو إقامة مهرجان سياحي النزعة وذاتي التوجه إلى درجة التغافل عن أصحاب المواهب الحقيقية من أبناء البلد، والاكتفاء بالأعلام والمعروفين والمكرسين.

دار الأوبرا في مدينة الشاذلي القليبي الثقافية التي تحتضن هذه التظاهرة الموسيقية، هي ملك لكل التونسيين، وتكتسي طابعها الرمزي في بلد يفخر بموروثه الثقافي، فليس من الكياسة أن تشرع أبوابها للغرباء دون أبناء البلد، ومهما كان كرمنا وترحيبنا بالضيوف.

12