أيام الصحيفة والمقص

عجز الرقيب عن الإحاطة بكل "المخالفات" هو الذي جعل الكُتّاب أنفسهم، الذين عانوا من مقص الرقيب، هم الذين يحثون كل من يستخدم وسائل الإعلام الاجتماعي على أن يكون رقيب نفسه.
الأحد 2021/08/29
العلاقة بين القارئ والصحيفة تغيرت

في اللحظة الأولى من الولوج إلى متجر “كارفور” في مصر، أتوجه تلقائياً إلى ركن في السطر الأول، فيه موضع صحف الصباح والمجلات الأسبوعية والشهرية. فـ”الأهرام” بجلالة قدرها، موجودة بأقل من عشر نسخ، أُلصق على وجه كل منها رمز السعر. فلا أثر للصحف خارج المتجر، وليس هناك باعة ينتشرون في الشوارع، منذ الليل، ينادون على المارة لتناول صحف طازجة، مثلما كانوا على مر زمن طويل. ولوحظ أن الإقبال على ذلك الركن شبه معدوم ولو أن واحداً أراد تذكير آخر بوجود الصحف التي خلت منها الشوارع، سيكون الجواب “كله على النت”!

صحيح إن كل شيء على “النت” بما في ذلك الصحف نفسها؛ لكن العلاقة بين القارئ والصحيفة قد تغيرت تماماً أو انقطع معظمها، لأن النُثار الشاسع المضيء بكل الألوان، للمواد على الشاشات، يأخذ المستخدمين إلى مطارح كثيرة أخرى. وليس في وسع الصحيفة أن تطرح نفسها، ولا أن تكون لها خصوصيتها المهيبة، فالرمل كثير والزمن قصير والدنيا تجري والعالم والنشر الإلكتروني يتسع، ويضرب حتى أرزاق المكتبات!

لا أدري ما هو شكل ووظيفة الرقيب القديم، الذي كان يضبط إيقاع الصحف في الدول الهشة، فيقص ويحجب. أو ماذا يفعل الآن بعد أن انتهت وظيفة المقص. إن المستحدث من القوانين، تحت عنوان الجرائم الإلكترونية، لا يحتاج إلى مقص، لأن المنشورات لا تخرج على الورق من أفواه المطابع، وإنما تنزل كالأقدار المستعجلة عبر الشاشات، وعأفكالى الرقيب الجديد أن يتقصاها لكي يُنتج بدوره قرارات اتهام تنظر فيها المحاكم، قياساً على ما يسمى ثوابت المجتمع والذوق العام. وبحكم اتساع مشهد النشر عبر الشبكة، يتسع الفتق على الراتق، وتنشأ الكثير من المفارقات، كأن يتعرض الرأي للمتابعة والملاحقة القضائية، بينما تظل فالتة مواد “البورنو” أو الجنس المكشوف والكُفر الصريح، وغير ذلك مما يخدش الذوق العام وثوابت المجتمع. ولعل عجز الرقيب عن الإحاطة بكل “المخالفات” هو الذي جعل الكُتّاب أنفسهم، الذين عانوا من مقص الرقيب، أثناء مثابرتهم على تنوير شعوبهم وترقية وعيها؛ هم الذين يحثون كل من يستخدم وسائل الإعلام الاجتماعي على أن يكون رقيب نفسه!

ومن الطريف أن السلطات التي تلاحق أصحاب الرأي المخالف من مستخدمي الإعلام الإجتماعي ليس في مقدورها الإحاطة بالشبكة الشاسعة، لكي تتصدى لظهور صحف من بلدان أخرى وبكل اللغات، تطرح كل ما يخالف توجهاتها أو حتى يخالف ما يسمى ثوابت مجتمعها وتوجهات نظامها الساسي. وفي هذه الحال، يكون لسان حال السلطات مختلفاً، وهو التسليم بأن الثوابت ثابتة بطبيعتها، وأن العدو عدو بطبيعته، لذا وجب التركيز على المعارضين المحليين أو المخالفين، من المجتمع، سواء بالأيديولوجيا أوالسياسة. عندئذٍ، يتنوع التركيز وتتشعب المعالجة، ويفرض المأزق نفسه، وتنشأ قواعد اشتباك جديدة. فالمواطن المتاح جلبه إلى محاكمة متهماً بجريمة إلكترونية، يؤتى به ويُحاكم، أما غير المتاح جلبه، فيطارده الذباب الإلكتروني، إن كان شخصاً فرداً، وإن كان جزءاً من طيف سياسي أو جماعة سياسية. وتتأسس لدى السلطات غرف التنصت
وافتعال “الهكر” وتدبير الاختراق، وما يسمى الـ”فوتو شوب” لقتل السمعة. وفي المجتمعات المحافظة، يكون التركيز على موضوعة الأخلاق، كأن يُضبط المعارض، أو يُختلق له ضبطٌ، في شريط سمعي أو بصري مُخِل يفتك بمصداقيته فيما يقول أو يزعم!

لكن مهمة السلطات في هذا السياق، تظل مستحيلة مهما فعلت، ما يجعلها تترحم على أيام الصحيفة والمقص!

24