أولاد النار متعددة الوسائط يشرعون في كتابة تاريخ لبنان المعاصر

لطالما اعتبر لبنان بلدا رياديا في نظر المنطقة العربية، هو اليوم يعود إلى صورته الريادية حين دفع بكل تناقضاته وصراعاته واعتياده على حرية الإشهار بالرأي إلى الساحات في كافة المناطق اللبنانية، حتى تلك التي روّضها الإذعان إلى الكوارث الاجتماعية المتلاحقة.
عشرة أيام نارية متعدّدة الأشكال والوسائط اندلعت بداية في شكل اعتقال وتحقيق مع صحافيين بعد إثارتهم للعديد من الفضائح في وسط موجة حر ضربت البلد، وازدياد في عدد ساعات انقطاع الكهرباء، والتطاول على دور المرأة في السياسة، وإثارة النعرات الطائفية من قبل أفراد في الدولة، واندلاع حرائق مهولة في الأحراش، التي عجزت لا بل تقاعست الدولة عن إطفائها، وصولا إلى سلسلة جديدة من فضائح الفساد، والضرائب الإضافية، عشرة أيام كانت كفيلة بأن تدفع بالاحتقان إلى اختيار اللبنانيين كوسيلة تعبير، النار لكي يخطّوا بأجيجها الرمزي والواقعي سيرة حكّامهم، أمراء الحرب للبنانية، في العلن ودون تحفّظ.
حضرت النار بكل أشكالها الرمزية والواقعية: النار في الحرائق التي لم تنطفئ إلاّ حين تحوّلت إلى رماد. نار إشعال إطارات السيارات، نار في الممتلكات الخاصة، ونار في كلمات الاحتجاج ونار في التحرّكات البشرية الفردية والجماعية. هكذا ستحال النار إلى لغة خرجت عن إطارها المعهود لتطال الحارق والمحروق في آن واحد.
المشهد، بعيدا عن التداعيات والتحاليل السياسية، يبدو وكأنه ليقظة الذاكرة اللبنانية وقد ترجمت بصريا ومن منظار فني بحت “وسيطه” وأسبابه وظهوره النار التي وقودها الأفكار والمشاعر التي اختنقت طويلا.
مشهد يحيلنا إلى ما صنعه جيل من الفنانين في الخمسينات من القرن الفائت، ونذكر منهم ما قدمه الفنان لوسيو فونتانا. وباختصار شديد الفنان انتمى إلى التيار “المكاني” الذي فتح مساحة اللوحة لتكون تفاعلية وليس مجرد مساحة شأنها أن تتلقىّ الألوان. أشبعها بضرباته مُستخدما الحرق والتمزيق وإحداث الثقوب دون أن يخرج عن جمالية خاصة رفعت من شأن التدمير كفعل ترميم وبناء.
وينتمي فونتانا إلى مجموعة من الفنانين العالمين الذين عاصروا من ناحية الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية وفجعوا بآثارها على جميع الأصعدة، ومن ناحية أخرى من الحرب الباردة وتداعيات والنتائج المباشرة لاستخدام القنبلة الذرية.
النار المشتعلة في لبنان الغضب تحوّلت إلى لغة خرجت عن إطارها المعهود لتطال الحارق والمحروق في آن واحد
ويبدو لكل من شاهد المظاهرات النارية وكل من شارك فيها كأن الزمن هو زمن تظهير طائر الفينيق خارج الكليشيهات المعتادة، طائر واحد وموحّد ينبعث فيه وليس من حرائقه. وخلافا لما قاله المفكر تيودور أدورنو “لا مكان للشعر بعد محرقة أوسفيتش”، فالمشهد الشامل المتمثل في المظاهرات التي اشتعلت في كل لبنان تملك من الشعرية ما تخطّى كل الكلمات، على الأقل بالنسبة للبنانيين.
مجمل المشهد العام الضارب بسكين واحد في سطح الفساد القائم ينطق بما قاله الفنان لوسيو فونتانا “أحدثت شقا في اللوحة لأجل أن أنفذ إلى ما هو خلفها.. لكي أهرب من ضيق سجنها المُسطح.. إنه فعل تحرير.. لا يهمني أن أموت بعد ذلك”.
أما مُحرك عمل الفنان أنطوني تابييز الذي يظهر جليا في كلماته “العذاب الدراماتيكي لمن هم أكبر منا سنا، والفنتازيا القاتلة لمن هم من جيلنا المتروك إلى ردّات فعله المبعثرة في خضم المآسي”، هي كلمات تعبّر عن موقف المجموعة الشابة جدا من المتظاهرين وجيل الحرب على السواء.
ومن ناحية ثانية لا تخرج أعمال الفنان ميمو روتيلا المتمثلة بملصقات دعائية ملونة هشّمها أنكر تهشيم، عن هذا الإطار البتة، لاسيما في الصور الفوتوغرافية التي تناقلتها وسائل الإعلام عن المواقع المدمرة بفعل المدسوسين في صفوف المتظاهرين وغير المدسوسين الكثر من الذين احترقوا طويلا بنار الفقر.
وتبقى أعمال الفنان ألبيرتو بورري هي الأكثر تعبيرا عن التمدّد العميق لجغرافية الحرائق التي أشعلها الضجيج البصري للمظاهرات الملوّحة بالأعلام اللبنانية الحمراء.
قدّمت هذه المظاهرات للناظر إليها عن بُعد، كما للواقف أمام لوحات الفنان لوسيو فونتانا المعدنية الملتمعة، إبهارا مختلفا بدّل من ملامحها من كل زاوية نظر دون أن يخرجها من معناها. وباتت، كما في اللوحات الخارجة عن محدوديتها، باتت المشاهد العامة المفتوحة والمنقولة عن بعد، لاسيما تلك التي حدثت في ساحة الشهداء ومنطقة رياض الصلح وسط بيروت، أشبه بلوحات بورري التجريدية المتوازنة التي لا يعصف بها خلل إلاّ الصخب الداخلي الذي استوعب الفردي في منطق الجماعة مكرّسا بذلك “الخلل” كقوة للبناء وللوعي الجماعي وليس للتدمير.
قدّم الشعب اللبناني نموذجا من مظاهرات تليق به تعالى فيها عن العصبية الطائفية التي غذّاها واستغلها طويلا زعماء الطوائف اللبنانية. خطوا بالنيران التي أحرقت مؤخرا حتى الرماد آلاف الأشجار في لحظة ميثاقا ثقيلا ووطنيا جديدا يُرجى أن تكتب له الحياة. هؤلاء في الساحات هم أرواح الأشجار اللبنانية المحروقة وقد عادت إلى الحياة في هامات بشرية.
أما صراخهم، فهو صراخ الأشجار الذي صدح كما في كلمات الشاعر اللبناني شوقي بزيع في مؤلفه “صراخ الأشجار”: وأنت أيتها الحقول البور/ أيتها البلاد المستعادة من رماد حرائق الماضي/ كأنصبة بلا موتى/ سأبقى حارسا كالظل مرتفعاتك المضمومة الأهداب/ حول الشمس/ أو متوسّدا كظهيرة كبد الحصى/ أو غافيا مثل الطحالب تحت ليل مياهك العمياءْ.