أوديب أستاذ كيمياء يتحوّل إلى حمار

"الجحش السوري" يوتوبيا جديدة عن وطن سوري دمرته الحرب.
السبت 2021/05/29
التحول لعبة سردية تسخر من المرارة (لوحة للفنان بسيم الريس)

لعبة التحول لعبة سردية قديمة لم تتوقف الروايات عن استعمالها كلما أرادت الغوص أكثر في ظواهر العالم من منظور مختلف. فكما تحول بطل رواية “الحمار الذهبي”، أقدم رواية في التاريخ إلى حمار بشكل خاطئ، تحول غريغور سام بطل رواية “التحول” لفرانز كافكا إلى حشرة، وها نحن أمام تحول آخر إلى حيوان يخوضه أستاذ كيمياء سوري بطل رواية أسماء معيكل “الجحش السوري”.

لم يكن في وارد أوديب، بطل رواية “الجحش السوري” لأسماء معيكل التحول إلى جحش بدافع الفضول لبيان أثر السحر على الإنسان، كما في رواية “الجحش الذهبي” للوكيوس أبوليوس، ولم يكن أوديب ممن يعشقون المغامرات الخارقة، وما كان في وارده خوض تجارب خطيرة أيا كان نوعها، بل وجد نفسه في محنة حقيقية، دفعته للبحث عن طريق الخلاص من الموت، الذي شهده بأمّ عينه، فوظّف خبرته في الكيمياء، وتمكن من تحضير مادة تساعده على الاختفاء عن الأنظار، حالما يستنشقها، حينما يداهمه الخطر، في بلاد اختلط حابلها بنابلها بحرب أهلية.

أراد أوديب، وهو مدرّس كيمياء، حماية نفسه من الخطر بتركيب مادة كيمائية تجعله غير مرئيّ وقت الخطر. لم يخطط لتغيير هويته وشكله وجنسه؛ إنما إخفاء نفسه مدة قصيرة حينما يداهم رجال الأمن بيته في سياق ملاحقتهم الأبرياء بتهم الإخلال بالأمن الوطني، فخطر له تركيب مادة تخفيه عن الأنظار مدة قصيرة على غرار ما كانت تدعيه الأساطير القديمة من وجود طاقية تخفي المرء عن العيان في وقت الشدة، وكان شغوفا بتلك الأساطير شغفه بالكيمياء.

رواية ساخرة تعتمد على المفارقة
رواية ساخرة تعتمد على المفارقة

التحول إلى جحش

اعتكف أوديب في بيته متجنبا المخالطة لما تؤديه من ضرر، حينما بدأت الحرب في البلاد، فلا يغادره إلا إلى المدرسة، وعلى هذا المنوال التكراري من الذهاب والعودة بين البيت والمدرسة، وتجنب المخالطة، أراد قطع دابر أي ذريعة تلحق به الأذى، وذلك يتوافق مع حاله، فهو مواطن بسيط لا ميول له، ولا يؤمن بأي دعوى للفرقة والكراهية، وشغله الشاغل الانغماس في تجاربه الكيمائية.

 وعلى هذه القاعدة من التوازن السردي بنت أسماء معيكل فرضية التوازن وغيابه في أحداث روايتها، الصادرة حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، فلا

يسلم الإنسان إبان الحروب الأهلية من الأذى، مهما حاول الابتعاد عنها، فـ”الجحش السوري” رواية ساخرة تعتمد على المفارقة، لكنها لا تخلو من حس مأساوي يذكر بالملاحم الإغريقية.

وكما أسلفنا بطل الرواية رجل يدعى أوديب انتحل له أبوه هذا الاسم لشغفه بالأساطير، ولأن أوديب كان ملكا يونانيا من أصول سورية، وهو أحد أحفاد الملك السوري قدموس باني طيبة، فقد اختاره أبوه اسما له، وزاد في التعبير عن إعجابه بأن سمى ابنته، أي أخت أوديب، أنتيغونا، ومن هنا وقع انتحال الأسماء، الذي وظفته الكاتبة لبيان سوء المصير الذي يلحق بالإنسان عن إثم لا علاقة له به.

 أوديب في رواية أسماء معيكل هو مواطن سوري هادئ الطباع، نأى بنفسه عن التحيزات المذهبية والطائفية والعرقية والسياسية، حاله حال الغالبية العظمى من أبناء قومه، ويعمل مدرسا للكيمياء في “تلّ الورد” التي تكني بها الكاتبة عن سوريا في روايتها، ومع أنه أبعد نفسه عن كل ما يثير الشبهات من حوله، لم يعصمه حياده من المضايقات الأمنية، والاعتقال والتعذيب، بعد انزلاق بلاده إلى حرب أهلية، وحينما ازدادت الضغوطات عليه، وداهمه الخطر أصابه الذعر، فاستخدم المادة الكيمائية بشكل خاطئ، وبينما كان ينتظر اختفاءه، فوجئ بأنه تحول إلى جحش، لكن عقله ظل واعيا بما يدور من حوله.

بهذا التحول، الذي هو ذريعة سردية صريحة، بدأت الرحلة الشاقة للجحش السوري في بلاده، فقد تعرض للبيع والشراء غير مرة، وبهذا راح يتنقل بأحماله في سوريا من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، وفي تنقلاته كشف عن حال تلك المناطق المتنوعة دينيا ومذهبيا وعرقيا في ظل الحرب الأهلية.

من خلال مشاهداته عرّى أوديب واقع الجماعات المتقاتلة بدعاوى وطنية أو دينية أو عرقية، وما آل إليه حالها من انغلاق وتعصب وتطرف، حيث انكشفت أمام ناظريه أمور ما كان له أن يعرفها لولا تحوله إلى جحش؛ فمن ذا الذي يعير انتباهه إلى جحش ليتحفظ أمامه على ما يقوله أو يفعله. كما اطلع الجحش أوديب، وقد حمل أسماء كثيرة من طرف مالكيه، على أحوال من عرفهم في حياته الآدمية قبل تحوله إلى بهيمة، وما آل إليه حالهم، وما طالهم من تغيّرات.

عصر أنثوي جديد

Thumbnail

نجا الجحش السوري، الذي هو في حقيقته رجل سوري نقيّ السريرة، من الموت بأعجوبة، لكنه لم ينج من العذاب الوجودي، فعقله الواعي لا يكف عن التفكير، وظل يتأرجح بين ما كان عليه قبل التحول وما صاره، ومع أنه أدرك أنه كان يحيا حيوانا بجسد إنسان، وصار إنسانا بجسد حيوان مع ما حققه له وضعه الجديد من مكاسب، وشعور بالحرية في بلد تنعم فيه البهائم بالحرية أكثر من بني البشر، إلا أن بعض الأفكار ظلت تعذبه، وراح يتطلع إلى عودته إلى أصله، أو أن يجري مسخه مسخا كاملا فيرتاح من عناء التفكير.

 بعد زهاء عشر سنوات على تحوله جحشا، وبعد أن أهلك العنف والإرهاب معظم أهل البلاد بين إبادة بالقتل، أو بالتهجير والنزوح، تفشّى وباء خطير فتك بمن تبقى من الرجال، الذين أخطأتهم الحرب، وبذلك ختمت الأحداث بفناء جنس الرجال الذين جلبوا الهلاك لأنفسهم، ولم ينج من الوباء سوى النساء وصغار الأطفال والبهائم، عالم جديد خلا من الرجال الذين مارسوا العنف دهرا بعد دهر.

 وبعد أن أبيد الرجال بالحرب، أو بالجائحة، آلت سوريا للنساء والأطفال، فبدأ عصر أنثوي مسالم على أنقاض عصر ذكوري عنيف، بدأت النساء في التأسيس لحياة جديدة مختلفة عما مضى، مع محاولة الاستفادة من التجارب المريرة التي خاضتها البلاد، وسن قوانين تتناسب مع ما آلت إليه الحال.

وفي ظل هذه الظروف الجديدة استعاد أوديب هويته البشرية، لكنه لم يحتمل شعوره بالإثم بعد أن اكتشف أنه مارس زنا المحارم مع أخته أنتيغونا التي مسخت أتانا هي الأخرى، بعد أن تعاطت المادة الكيميائية نفسها للاختفاء، وتجرعتها خطأ، ثم عادت إلى أصلها البشري بعد أن أنجبت توأما، حملت بهما حينما كانت أتانا، وظلت تجهل من يكون والدهما، فقد نزا عليها عدد من الجحوش، ولم تسلم من الرجال الذين ولغوا فيها وهي بهيمة، وتعاظم شك أوديب في أن يكون والد التوأم، وخالهما في آن، بعد ما روته له أخته من وقائع شهدها.

"الجحش السوري" رواية ساخرة تعتمد على المفارقة، لكنها لا تخلو من حس مأساوي يذكر بالملاحم الإغريقية

في ظل المحنة الجديدة حاول أوديب الانتحار فلم يقو عليه، ثم في لحظة من الانفعال، وفقدان السيطرة على نفسه، تجاسر وقطع ذكره ليتخلص من الشعور بالإثم، لكن عذاب البدن لم ينجه من عذاب الروح، التي مسها العطب، بعد كل ما مرّ به من مآس، فلا يجد مناصا من وضع حد لآلامه إلا بالعودة إلى الكيمياء مرة أخرى، وتطوير مادة تحيله إلى جحش كامل المسخ هذه المرة.

وسواء كان الانمساخ جزئيا أو كليا، فالكاتبة، في سياق السخرية، تهكمت من أحوال فاقت في غرابتها قدرة الإنسان على استيعابها.

لا يخفى أن أسماء معيكل قد ابتكرت في روايتها حيلة سردية أرادت بها تمثيل أحوال بلادها، وهي تخوض نزاعا تعددت أسبابه، وتورطت فيه قوى محلية وإقليمية وعالمية، فلطالما كان السرد خير وسيلة لتمثيل تلك الأحوال الصعبة، وباختيارها فكرة مسخ الإنسان إلى حيوان، أرادت التحذير من تحول المواطن إلى بهيمة ليتمكن من العيش في بلاده، فما عاد الوطن حضنا للأمن والحماية والعيش الرغيد، إنما ميدان للقتل والفتك.

وعلى ما أسلفنا يصح تأويل رواية “الجحش السوري” على أنها كناية سردية عن مجتمع انخرط في تدمير ذاته بوهم أنه يصونها، مجتمع عميت بصيرته بتفرقته إلى جماعات متحاربة، مجتمع لم يكسب غير الخراب والفناء، ولأن الحياة أقوى من أي فعل عنيف، فمن تحت تلك الأنقاض يترعرع أمل بإنشاء مجتمع نسوي، أقرب ما يكون ليوتوبيا سورية، تعيد تنظيم الحياة وفق أعراف جديدة، لا تتيح تكرار تجربة الحرب الأهلية، وهو أمل سردي كبير تنتهي الرواية به.

13