أوان اتفاقية شجاعة بين مصر وإثيوبيا برعاية إماراتية

خبران إيجابيان وصلا مصر أواخر شهر آب/أغسطس. الضغوط الاقتصادية التي تراكمت على البلاد جعلت شعبها بمزاج متعكر. حرب أوكرانيا أضافت عبئا جديدا على المصريين وجعلتهم في مواجهة السيناريو المكرر والمخيف: كيف تتأكد أن لا أحد يجوع في مصر؟ كانت مصر في حاجة إلى خبر يعدل المزاج. تحتاج القيادة المصرية أن تستثمر بالتطورين السياسيين المهمين، وأن تهتم بتحويل الخبرين إلى شيء ملموس يمكن البناء عليه.
الخبر الثاني هو دخول مصر بريكس. هذا إنجاز حقيقي لبلد يعاني من كل عقد التنمية ونقص التمويل والانفجار السكاني. بالمقاييس العادية، تبدو مصر غير مؤهلة لعضوية بريكس، على الأقل ليس الآن. لكن عيون الأعضاء المؤسسين لبريكس وروسيا تنظر لمصر إستراتيجيا. يكفي موقعها على ملتقى القارات. هل نضيف إذا نتحدث عن تأثيرها في محيطها.
لكن الخبر الأول لا يقل أهمية رغم أنه من بعيد يبدو ليس ذا علاقة بمصر. إنها الاتفاقية مترامية الأطراف التي وقعتها الإمارات مع إثيوبيا قبل أيام من قمة بريكس. كل ما يحدث في إثيوبيا يهمّ مصر، بل يمسّها بشكل مباشر. والاتفاقيات والمذكرات التي تم توقيعها في أديس أبابا، لا أجد في أيّ منها ما لا يلامس شأنا مصريا، بل يمكن القول إنه يفيد مصر بشكل مباشر.
◙ على مصر انتهاز الفرصة بوجود آبي أحمد وبعلاقته الخاصة بالقيادة الإماراتية وبوضعه القوي في بلاده مما يسمح له بتمرير مشروع تسوية ملف سد النهضة من موقع القادر
ليس من قبيل المصادفة أن تدخل مصر وإثيوبيا في يوم واحد في بريكس. هاذان بلدان بمقومات كبيرة، تعثرا لاعتبارات مختلفة ويمكن القول إنه جاء الوقت كي يأخذا مكانة يستحقانها في عالم متغير. وليس من قبيل المصادفة أن يرتبط بلد مثل الإمارات، بقيادة ذات نظرة ثاقبة وديناميكية، بهذين البلدين على نحو إستراتيجي عميق.
الاتفاقيات الإستراتيجية ومذكرات التفاهم التي تم توقيعها في أديس أبابا بين الإمارات وإثيوبيا ترسم صورة لما يمكن أن يحدث بين البلدين على المدى المنظور. بدءا، من الواضح أن الاتفاقيات تم إعدادها من قبل كوفيد ومن قبل اندلاع الصراعات القبلية على الأرض. هذه الاتفاقيات ليست مشروع صداقة، بل نقلة إستراتيجية تجعل من إثيوبيا مجالا حيويا إماراتيا في أفريقيا. اختارت الإمارات الحليف السياسي والاقتصادي الأفضل والأقرب، في الوقت الذي انطلق فيه السباق العالمي على أفريقيا. هذا النوع من التحالف يأخذ بالاعتبار أن إثيوبيا تواجه بين حين وآخر أزمات سياسية، لكن الثوابت في العلاقة لا تهتز بمثل هذه الأزمات، بل على العكس ستكون مساهمة في التخفيف منها. لا أوهام إماراتية بطبيعة مشكلات القرن الأفريقي، لكن مع المجازفة هناك النتيجة.
الاتفاقيات ومذكرات التفاهم وخطابات النوايا وخرائط الطرق الموقعة بين الإمارات وإثيوبيا بلغت 18، لم تترك بندا أمنيا وماليا واقتصاديا لم تطرقه. لكن حضور الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات برفقة نائب رئيس الدولة الشيخ منصور بن زايد آل نهيان لمعرض “المياه والطاقة”، ومشاركتهما رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد مراسم افتتاح المعرض، كانت الرسالة الإماراتية لمصر من أديس أبابا: نحن هنا من أجل مصر ونيلها ومائها أيضا.
ما الذي اختلف مع الاتفاقية الجديدة؟ أن إثيوبيا أصبحت شريكا إستراتيجيا للإمارات مما يجعلها بصدد النظر للأشياء بزاوية أوسع وأكثر شمولية تتجاوز “انتهازية” موقف مثل السيطرة على مجرى النيل والتحكم به من خلال سد النهضة. هذا يفتح الباب لعلاقة إقليمية من نوع ثانٍ. وهذا ما يجعل خبر الاتفاقية الإماراتية الإثيوبية خبرا إيجابيا لمصر. الإمارات ليست بصدد التضحية بعلاقتها بمصر لصالح إثيوبيا، بل إنها تستعد لكي تكون راعيا لاتفاقية حقيقية تنظم مسألة السد خارج نطاق الانتهازية والقلق والتوتر التي شكلت منحى المواجهة بين مصر وإثيوبيا بسبب السد.
إن آخر ما تحتاجه مصر هو وسيط في موضوع سد النهضة. فمصر في حاجة إلى طرف وازن يغير معادلة التعامل الإثيوبي مع المنطقة بمستوى يصبح سد النهضة تفصيلا متوسط الحجم تنبغي تسويته خصوصا وأن هذا الطرف الوازن حريص سياسيا ونفسيا أن تخرج مصر باتفاقية حاسمة تضمن حقوقها وتقطع الطريق على أي مجال لضغوط إثيوبية. هذا الطرف الوازن هو الإمارات والتي تتصرف مع الطرفين بمنطق الشراكة الإستراتيجية وليس كوسيط سياسي يسترضي أو طرف مانح يقدم مالا.
تدرك الإمارات أن قضية سد النهضة مسألة محورية كبرى بالنسبة إلى مصر لاعتبارات زاد عليها التصعيد السياسي والإعلامي. وفي كل مرة، كانت المفاوضات بشأن السد تنطلق لتعود إلى نقطة الصفر مما سمّم العلاقات الإقليمية وارتهنها بموضوع مهم، لكنه واحد من قضايا أخرى لا تقل أهمية.
الصور التي جاءت من معرض “المياه والطاقة”، والتي تزامنت مع مشاهد متعددة لتوقيع الاتفاقيات الثنائية، تقول إن لمصر حصة في العلاقة الإستراتيجية بين الإمارات وإثيوبيا لا يمكن إغفالها، لكنها علاقة لن تمر بمنطق دبلوماسية التعثر التي شابت التعامل المصري مع الملف منذ البداية.
◙ الاتفاقيات الإستراتيجية ومذكرات التفاهم التي تم توقيعها في أديس أبابا بين الإمارات وإثيوبيا ترسم صورة لما يمكن أن يحدث بين البلدين على المدى المنظور
المصريون في موضوع سد النهضة يريدون أكثر مما يفرضه الأمر الواقع، وإلى الآن لا توجد خطة مصرية واضحة للذهاب خطوة إضافية في مشروع الحل. ما تحتاجه مصر – بحضور الإمارات كراع وازن – هو شيء يشبه، إذا جازت المقارنة، رحلة الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى القدس عام 1977 وكلمته الشهيرة أمام الكنيست التي غيرت المشهد السياسي في حالة اللاسلم واللاحرب مع إسرائيل. النتيجة هي اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل واستعادة مصر لحقوقها في سيناء وتسوية ملف الحرب بشروط قد لا تكون كاملة من وجهة النظر المصرية، لكنها تعبّر عن الواقعية السياسية في تلك المرحلة. يومها وضعت تحديدات على المصريين من قبل الإسرائيليين مثل عدد القوات المصرية في سيناء وطبيعة تسليحها. هذه الأشياء اليوم تبدو تراثا بعد أن أخذت مصر فسحة السلام لتلتفت إلى قضاياها المصيرية الأخرى. الراعي الوازن في الاتفاقية كان الولايات المتحدة.
اليوم ثمة حاجة إلى زيارة شبيهة لزيارة القدس، زيارة أديس أبابا من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أو زيارة القاهرة من رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد. نقول هذا ونؤكد أن على مصر انتهاز الفرصة بوجود آبي أحمد وبعلاقته الخاصة بالقيادة الإماراتية وبوضعه القوي في بلاده مما يسمح له بتمرير مشروع تسوية ملف سد النهضة من موقع القادر ومن موقع الذي جاء باتفاقية مهمة مع دولة الإمارات، الراعي الوازن للاتفاقية، والدولة التي تراهن على علاقة استثنائية مع إثيوبيا. لا مكان لقصر النظر الآن وتضييع فرصة وجود آبي أحمد لتسوية الملف، كما أضاع الفلسطينيون فرصة إسحاق رابين لينتهوا بالتعامل مع شخصية يمينية مريضة مثل بنيامين نتنياهو. مصر في حاجة إلى القرار، وقرار حاسم لا نعود بعد سنة لنكون معه حيث بدأنا.
في محور بريكس تبدو الملامح الإستراتيجية للشراكة واضحة. الثلاثي، الإمارات ومصر وإثيوبيا، هو الأقرب من بعض للكثير من الاعتبارات. هذه فرصة تحتاجها مصر أكثر من أيّ وقت مضى. من المهم عدم تفويتها والإصرار على التلهي بجولات لا تنتهي من التفاوض غير المثمر مع إثيوبيا، أو التصعيد السياسي والإعلامي بلا أيّ جدوى. هذا أوان اتفاقية سد النهضة. هذا أوان اتفاقية الشجعان.