أمينة دشراوي: المسرحيون في صراع من أجل البقاء

تعرف الساحة المسرحية التونسية في المدة الأخيرة حركية تتجاوز حالة الركود التي سببتها الجائحة، ولعل عودة مهرجانات كبرى مثل أيام قرطاج المسرحية ومهرجان نيابوليس الدولي لمسرح الطفل وغيرها، لهما بالغ الأثر في ذلك. “العرب” حاورت مديرة مهرجان نيابوليس المخرجة والممثلة أمينة دشراوي حول المهرجان ومسرح الطفل ورؤاها في المسرح التونسي عموما.
مهرجان نيابوليس لمسرح الطفل يعتبر تظاهرة عريقة، وقد بلغ هذا العام دورته الخامسة والثلاثين، حول الجديد الذي قدمه في الدورة الأخيرة، تقول مديرة المهرجان المسرحية أمينة دشراوي “الدورة الخامسة والثلاثون من مهرجان نيابوليس الدولي لمسرح الطفل كانت نسخة استثنائية بامتياز، إذ لأوّل مرة في تاريخ المهرجان الأعرق عربيا وأفريقيا في اختصاصه، يكون الإشعاع بين مدينتي نابل ومدينة ياسمين الحمامات وهذا يعدّ تجديدا في فضاءات المهرجان إضافة إلى مشاركات جديدة كمشاركة عرض من قبرص لأوّل مرة في تونس”.
وتضيف “من جهة أخرى حاولنا الانفتاح على الفلسفة الموجهة للطفل بالشراكة مع معهد تونس للفلسفة والتي نعتقد أنها من أهمّ مظاهر التجديد في المهرجان الذي يعود بعد سنتين من الغياب عن جمهوره”.
مسرح الطفل
مسرح الطفل رهان صعب، بين ما هو فني وتربوي، نسأل دشراوي عن طريقة اختيارهم للأعمال المشاركة، وكيف أسسوا للفقرات الموازية؟ تجيبنا “إنّ العمل على مادة مسرحية موجهة للطفل يتطلب تأنّيا ودقة في انتقاء العروض المقترحة سواء كانت دولية أو تونسية، إذ لا بدّ من احترام ذكاء الطفل ومسايرة العصر بكل متغيراته وفي نفس هذا الإطار، كان الاتّجاه نحو موضوع ‘مسرح الطفل والتكنولوجيات الحديثة‘ في شتى محاور المهرجان من ندوات فكرية وحلقات نقاش، وورشات وعروض تفاعلية للتفكير حول واقع الطفل الآن وهنا”.
طفل اليوم المتقن للتكنولوجيا ليس طفل الأمس، لذا نسأل مديرة المهرجان حول طريقة التعامل مع الأطفال اليوم بعيدا عن التعليمية والوعظ المباشرين، فتقول “في عالم تسوده معالم ثقافة جديدة وهي الثقافة الإلكترونية والرقمية وتمظهرات الذكاء الاصطناعي نحن ندعو إلى ضرورة ترسيخ إيتيقا جديدة لبناء معالم وسمات شخصية الفرد مستقبلا، خاصة وأن الطفولة هي النواة الأساسية لامرأة أو رجل الغد. هذا يتطلب عملا دؤوبا وجديا على خصوصيات الأجيال القادمة ووعيا تاما بالمسؤولية إزاءها إذ يقول الفيلسوف الألماني هانز جوناس في هذا الصدد ‘المستقبل أمانة الذين لم يولدوا بعد‘”.
ويرى البعض أن هناك استسهالا في إنجاز مسرحيات الأطفال من قبل بعض المخرجين التونسيين، وتقول دشراوي حول هذه الظاهرة “حتى لا نقول استسهالا، حسب رأيي لا يمكننا تحليل الحاضر بوسائل الماضي، وأقصد بذلك يجب أن يعي القائمون على مسرح الطّفل بتونس صعوبة المهمة المنوطة بعهدتهم، وذلك بالانفتاح أكثر على الفنون الموجهة للطفل في العالم وتعميق البحوث في مجالات الطفولة والاطّلاع أكثر على الدراسات الاجتماعية والنفسية والبرامج المخصصة لليافعين والناشئة، لتطوير آليات الفرجة والارتقاء بمسرح الطفل في تونس”.
وتسألها “العرب” ما دور مسرح الطفل في خلق حركية مسرحية بشكل عام، سواء في خلق جمهور مستقبلي أو مبدعين وموهوبين جددا؟ لتجيبنا “إنّ الطفل -سواءا كان متقبلا للفعل المسرحي أو مشاركا فاعلا فيه- هو محور هذه الممارسة وممّا لا شك فيه، يعدّ المسرح الأداة المثلى لمقاومة العنف والتطرّف بما أنّه يخلق مساحات إبداعية تساهم في تنشئة الفرد وبلورة شخصيته للتواصل في إطار المجموعة وتطوير الحس الفني وهو ما يؤسس لجيل قادم من المبدعين والمتذوقين للفنون المسرحية وغيرها”.
مشهد ضبابي
في موضوع آخر نتطرق مع دشراوي، وهي التي اشتغلت في التمثيل والإخراج المسرحيين، للحديث عن واقع الإنتاج المسرحي في تونس اليوم في ظل أزمة ركود طالت نسبيا، تقول “يبدو لي أنّ الفعل المسرحي في هذه الأزمة أصبح شكلا من أشكال المقاومة فالوضع العامّ في البلاد، سياسيا واقتصاديا وإعلاميا يشجع يوما بعد يوم على خلق مجتمع مستهلك للرداءة، هذا بالإضافة إلى هيمنة محتويات مواقع التواصل الاجتماعي التي تبلّد الذهن وتدفع إلى الركود والتفاهة”.
وتضيف “في ظل كل هذه الأوضاع المتردية، ناهيك عن محدودية الإمكانيات المادية وغياب الجمهور، يجد المسرحي نفسه في صراع من أجل البقاء وسط كم من التجارب المسرحية المشتتة رغم تنوعها”.
لا بد من احترام ذكاء الطفل ومسايرة العصر بمتغيراته لذا توجه مهرجان نيابوليس لموضوع مسرح الطفل والتكنولوجيات الحديثة
واقع المسرحيين التونسيين صعب، ولا أحد ينكر تراجع الإنتاج في المسرح التونسي، نسأل دشراوي هنا عن الحلول في رأيها لخلق حركية مسرحية حقيقية، لتقول “لا بدّ من ثورة ثقافية وفنية تؤسس لمشروع مسرحي حتى نستطيع القول إنّ هناك مسرحا تونسيا حقيقيا له خصوصيات ومقومات ورهانات بعيدا عن التجارب الشخصية المتفرقة”.
ونسألها هل يمكن للمسرح أن يتحول إلى صناعة على غرار السينما، ويتخلى ولو نسبيا عن الاتكاء على الدولة لدعمه؟ فتجيبنا “في الحقيقة، لا مناص من الاتجاه نحو القطاع الخاص والانفتاح على وسائل دعم أخرى، فالاتكاء على الدولة مع الزخم الهائل من هياكل الإنتاج المسرحية يثقل كاهل الجميع الأطراف، ويجعل المسرحي في حلقة مفرغة من الأزمات المادية والنفسية ممّا يحد من إبداعه ويعمّق اليأس والتفكير في التخلي والهجرة، كما هو حال العديد من الفنانين التونسيين”.
أما الممثل المسرحي فيعاني واقعا صعبا، يدعو الكثيرين إلى ترك الخشبات، وهو ما تؤكده دشراوي مشددة على أن فرص العمل قليلة، وسائل الإنتاج محدودة والمشاكل المتعلقة بالفضاءات المسرحية عديدة ومهنة التمثيل لا يمكنها تحقيق العيش الكريم، لكنّها تؤكد أن المعاناة الإبداعية هي معاناة شخصية وتتطلب نفسا عميقا، مضيفة “لولا عشقنا لخشبة المسرح لما صمدنا يوما”.
الممثلات هن الحلقة الأضعف في دائرة الإنتاج، إذ تهضم حقوق بعضهن، علاوة على البيئة الذكورية التي يواجهنها، تقول دشراوي لـ”العرب” حول هذه النقطة “العقلية الذكورية متوارثة منذ الأزل خاصة في المجتمعات العربية، لكنني لا أوافقك الرأي بأن الممثلات هنّ الحلقة الأضعف، فالممثلة التونسية رغم معاناتها اليومية متواجدة في الميدان المسرحي بقوة وهي، من تجربة إلى أخرى تنبعث من رمادها شأنها شأن طائر الفينيق”.

وبسؤالها إن كان يمكنها الهجرة من المسرح إلى السينما أو الدراما، تؤكد دشراوي ذلك قائلة “طبعًا، لقد كانت لي مشاركات في السينما في بعض الأفلام القصيرة وأعتبر نفسي من هواة الفن السابع ويروق لي التمثيل أمام الكاميرا. بالنسبة إلى المجال التلفزي، لا يمكنني الخوض في أي تجربة كانت لأنه مجال تسوده الرداءة مع ندرة التجارب القيمة والهادفة”.
وتشتغل دشراوي على عمل جديد كمخرجة، وتخص “العرب” بالحديث عنه قائلة “هو عمل مسرحي من إنتاج مركز الفنون الدرامية والركحية بتطاوين، تمثيل منير الخزري وهيفاء الكامل، بدأت الاشتغال عليه منذ أكثر من سنة وسيرى النور قريبا”.
أما عن رؤيتها لمستقبل المسرح في تونس، فتقول “يبدو المشهد المسرحي ضبابيا في حاجة إلى تصفيات ومعالجة وإصلاحات هيكلية وجذرية، لكنني متفائلة بمستقبل أفضل إيمانا منّي بجيل قادم قد يتفطن إلى ما لم نقدر عليه نحن”.