أمة يهزمها مسلسل وكتاب

الشعوب إذا قرأت فعليها أن تقرأ ما يحدده لها المسؤولون حتى لا تفهم لأنه إذا فعلت ذلك ستكون خطرا على استقرار الحكم.
الخميس 2025/03/20
كيف يمكن لمسلسل، مهما بلغ به الشطط أن يهدد النسيج المجتمعي في أي بلد؟!

ربما يكون من العجيب أن هناك بعض الحكومات في القرن الحادي والعشرين لا تزال تعمل بنفس الطريقة التي صورها الروائي البريطاني جورج أورويل في روايته الممنوعة من التداول “1984” فترى نفسها وصية على الشعب، تفكر بالنيابة عنه وتقرر بدلا منه باعتبار أن الحكومة ورجالها يعرفون مصلحة الشعب أكثر من الشعب نفسه.

لكن الأعجب بالتأكيد أن تكون بين الشعب نسبة غير قليلة من أبنائه يؤمنون بوصاية الحكومة عليهم، وأنها ترى ما لا يرونه وتسمع ما لا يسمعونه، بل إنهم في الكثير من الأحوال يغضبون ويتظاهرون حين تنشغل الحكومة أو تنسى القيام بمهمة الوصاية.

حديث الوصاية أعادته إلى الأذهان مبادرة الحكومة العراقية ممثلة في هيئة الإعلام والاتصالات هناك بمنع عرض مسلسل “معاوية” بدعوى أنه ذو طابع تاريخي جدلي قد يؤدي إلى إثارة السجالات الطائفية، ما يهدد السلم المجتمعي ويؤثر على النسيج الاجتماعي.

لا أعرف في الحقيقة كيف يمكن لمسلسل، أو كتاب، مهما بلغ به الشطط أن يهدد النسيج المجتمعي في أي بلد؟! وأي هشاشة يتكون منها ذلك النسيج لكي يتهتك من عمل فني أو إبداعي؟! لكن الواقعة العراقية ليست سوى حلقة في سلسلة ممتدة من قرارات “الأخ الأكبر” التي تتخذها الحكومات وكبار المسؤولين في دول العالم الثالث نيابة عن شعوبها، مثلما فعل الخميني في ثمانينات القرن الماضي حين منع تداول رواية الكاتب البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي “آيات شيطانية” وأصدر فتوى بإهدار دمه.

المفارقة في قرار الخميني ومعظم القرارات المشابهة أن الشعوب ثارت بالفعل.. ليس غضبا من حاكم اغتصب حقها في أن تقرأ وتفهم ثم تقرر بنفسها موقفها، وإنما ثارت لتأييد الفتوى والمطالبة برأس الروائي البريطاني رغم أن النسبة الغالبة من الثائرين لم يقرأوا كلمة من روايته.

أتذكر هنا واقعة مشابهة حدثت في مصر في تسعينات القرن الماضي، حين أقدمت هيئة قصور الثقافة المصرية (الحكومية) على طبع رواية “وليمة لأعشاب البحر” للروائي السوري المعروف حيدر حيدر، ووقتها خرج الآلاف من طلاب جامعة الأزهر في مظاهرات عارمة، بزعم أن الرواية تتضمن عبارات تتطاول على الذات الإلهية وعلى القرآن وعلى نبي الإسلام، وظل الوضع ملتهبا حتى بادرت الوزارة بإعلان تراجعها عن طبع الرواية.

المضحك في الأمر، والذي يشبه البكاء كما قال المتنبي قديما، أن معظم المتظاهرين إن لم يكن كلهم تقريبا لم يقرأوا حرفا من الرواية ليعرفوا ما إذا كانت تحمل الإساءات التي قيل إنها تحملها أم لا، وإنما استجابوا لدعوات أطلقها ناقد فني موتور كان يكتب مقالا أسبوعيا في صحيفة “الشعب” الصادرة عن حزب العمل، في وقت تحالف الحزب مع جماعة الإخوان المسلمين، وكان الرجل يخصص صفحته الأسبوعية للهجوم على معظم الأدباء والكتاب والتحريض عليهم دون سند أو دليل إشباعا لشعوره بالغيرة من نجاحهم.

يؤمن العديد من المسؤولين في العالم الثالث بأن شعوبهم لا يجب أن تقرأ، عملا بالمبدأ الذي صاغه أورويل في نفس الرواية كشعار من شعارات الدولة المركزية من أن “الجهل هو القوة”، وأن الشعوب إذا قرأت فعليها أن تقرأ ما يحدده لها المسؤولون حتى لا تفهم لأنه إذا فعلت ذلك ستكون خطرا على استقرار الحكم.

18