أمام الورقة البيضاء

يكاد يكون الإحساس بالقلق من مواجهة الورقة البيضاء وما ينتج عنها، حالة يعيشها معظم الكتّاب، وبخاصة ممن يكتبون نصا إبداعيا، شعرا أو قصة قصيرة أو رواية أو مسرحا.
السبت 2019/01/05
الكتابة هل هي تحويل أفكار الداخل إلى الخارج (لوحة فادي يازجي)

في لقاء ضم عددا من الكاتبات والكتاب، جرى الحديث عن علاقة الكاتب بالورقة البيضاء، وكنت قد بدأت الحديث بمقولة للكاتب ماريا فارغاسيوسا “العمل الإبداعي لا يؤدي إلى الشعور بالأمان، حتى لو كنت قد أدركت كتابك السبعين، إنه الارتباك ذاته، أكاد أقول الفزع أمام الورقة الإرهابية وتهديد الخواء”، وتذكرنا السؤال الذي وجهته جمانة حداد إلى يوسا حيث قالت: لكن هناك كتاب يشعرون بالاطمئنان منذ كتابهم الأول؟ فأجابها: لكنني لا أتكلم عن الطواويس التي تحول نفسها أصناما من فرط غرورها التافه.

تقول القاصة الأردنية إنصاف قلعجي: من دون أن أكون مع ما قاله يوسا، أو أن أخالفه الرأي، لطالما أرعبتني الورقة البيضاء، ببياضها وأخاف أن أواجهها حين يعم الخواء ويشح عطاء الروح، فألجأ إلى العزلة.

ثم قالت: إنني أتساءل، هل خراب العالم هو السبب، هل أصبحنا أسرى الشعور بعبثية الكتابة، ولمن نكتب، ولماذا؟ ولا بد من الاعتراف بأن الورقة البيضاء تذكرني بالنهاية.

وشاركتنا الشاعرة والأكاديمية العراقية البارزة د. بشرى البستاني  قائلة: أولا، ما هي الكتابة، أهي تحويل أفكار الداخل إلى الخارج، أهي مجرد وسيلة تواصل أم غاية إنسانية راقية؟ في بداية علاقتي بالكتابة كنت صبية مبهورة بما يحدث، وكانت حالة تحول بيني وبين التوتر الذي يهيمن على دواخلي، في البداية رهبة ومن خلالها كنت أبحث عن شعور بالثقة، والكتابة بالنسبة للمرأة هي التعبير الخلاق عن هويتها، عن حريتها، عن حضورها في مجتمع كانت تسيطر عليه سلطة ذكورية قاهرة، فجاءت الكتابة لتمنحها الوعي بالذات والوعي بالواقع من دون تبعية، كل ذلك كان قد عرفته وعشته بالكتابة ومن خلالها، لكن ذلك لم يحل دون إحساسي بالتوتر كلما واجهت الورقة البيضاء.

يكاد يكون الإحساس بالقلق من مواجهة الورقة البيضاء وما ينتج عنها، حالة يعيشها معظم الكتّاب، وبخاصة ممن يكتبون نصا إبداعيا، شعرا أو قصة قصيرة أو رواية أو مسرحا، ويستمر حضور هذا القلق حتى بعد كتابة النص الإبداعي، وعلى سبيل المثال كان الشاعر اليوناني كفافي يكتب في العام الواحد ما يقرب من سبعين قصيدة أو أكثر، وبتأثير هذا القلق، يمزق معظمها ويستبقي أربع أو خمس قصائد فقط.

أما تجربتي الذاتية في الكتابة، فكلما تقدم بي العمر وازددت تجربة ونلت شيئاً من الشهرة، صرت أكثر حذرا في ما أكتب، وأجد صعوبة أكثر بكثير مما كنت أجدها في بدايات علاقتي بالكتابة، ومع أنني مارست العمل الصحافي في وقت مبكر وعرفت الصحافة بجميع أنواعها ومسؤولياتها وعلى امتداد زمن طويل، ومن المعروف أن الصحافة تكسر الكثير من حواجز العلاقة بين الكاتب والكتابة، مثل الوقت والمكان.

إن الصعوبة التي أشير إليها وما يقترن بها من قلق، لا تنصرف إلى كتابة النص الإبداعي، بل ترافقني حتى في كتابة عمود صحافي.

لي صديق شاعر ويكتب المقالة الأدبية والسياسية أيضا، وهو سريع الكتابة كثير النشر، وقد داعبته يوما بالقول: حين أنتهي من كتابة قصيدة، تكون قد انتهيت من كتابة مجموعة شعرية، وحين أنتهي من كتابة عمود صحافي، تكون قد انتهيت من إنجاز كتاب، وهي مجرد دعابة لا تصف حقيقة قائمة.

ومع كل بداية في ما أكتب وحتى يومنا هذا، سواء كانت إبداعية أم فكرية، أعيش حالة في مواجهة الورقة البيضاء أو الورقة الإرهابية كما يسميها ماريا فارغاسيوسا، من القلق والتوتر، بل من الخوف وكأنني أمسك بالقلم وأواجه الورقة البيضاء للمرة الأولى، ورغم انسياب حركة القلم على الورقة من دون توقف أو تعثر بفعل الخبرة وطول الممارسة، لم تفارقني حالة القلق والتوتر.

14