أليكسي نافالني.. زعيم المعارضة الذي تحرّش بالدبّ الروسي

يقول الأطباء الألمان المشرفون على علاج زعيم المعارضة الروسية أليكسي نافالني إن الأخير لا يزال يغطّ في غيبوبته، غير أن حالته مستقرة والأعراض تتراجع.
نافالني وصل من روسيا مشحوناً وسط إجراءات طبية مشدّدة، الأسبوع الماضي، إلى مستشفى “شاريتيه” في برلين حيث وجد الأطباء مؤشرات على وجود مثبطات الكولينستيراز في جسمه، وهي تمنع تحلل مادة كيميائية رئيسية في الجسم تدعى أسيتيكولين وتنقل الإشارات بين الخلايا العصبية. وأصدرت إدارة مستشفى ”شاريتيه“ قبل أيام، بياناً قالت فيه إن “هناك بعض التحسن في الأعراض الناجمة عن تثبيط نشاط إنزيم الكولينستيراز”.
ومن يذكر الروس يستحضر معهم على الفور تلك القامات الأدبية العملاقة في تاريخ روسيا أمثال تولستوي وتشيكوف وغوغول ودستوفسكي لم تستطع تهذيب الطبقة الحاكمة في تلك البلاد، ولكن تلك القامات على ما يبدو لم تشفع لشعب روسيا الذي يظهر أن قدره العاثر أن يحكمه كل قرن من ماضي الزمان متنمّرٌ جديد بصيغة أو بأخرى.
في القرن التاسع عشر القيصر نيكولا الثاني الذي امتلك الأرض ومن عليها وتعامل مع الإنسان الروسي الطيب على أنه من الأقنان الذين جعلهم يحسدون الحيوانات على معيشتهم؛ ثم جاء ستالين في القرن العشرين ليقتل طاقة الإبداع عند الإنسان الروسي ويجعله يشك في نفسه؛ وهاهو الآن من يُعرف بلاغياً “بالقيصر الجديد” يستفيد من أخطاء سلفَيه السابقين ليرخّص لنفسه حكماً أبدياً، حيث خلع الثوب الخارجي للشيوعي الأحمر وارتدى ثوب كهنوت الكنيسة الأرثوذكسية كما فعل نيكولا الأول، ولكنه استبقى تكتيك ستالين في قهر النفوس من خلال جهاز مخابرات وريث للـ“كي.جي.بي”، وحاول إيهام العالم أن توليه الحكم مباشرة ومداورة لفترة عشرين سنة هي عين الديمقراطية وزبدتها.
الاغتيال الجسدي لنافالني يترافق مع حملة اغتيال سياسي تشنّها وسائل الإعلام المؤيدة لبوتين في روسيا تظهره كحولياً غير مسؤول، وتشير بإصبع الاتهام إلى أجنحة أخرى من المعارضة الروسية التي قد تكون استهدفت نافالني
ويبدو أن هذا الامتداد البوتيني لأسلافه جاء ليؤكد أن لا جديد تحت الشمس. ويتميز المستبد بنَهم لا حدود له، شهيته للاستيلاء على مقدرات الآخرين الفكرية والمادية لا شيء يقف في طريقها، وعادة ما تستحوذ على عقله الباطن فكرة أنه هو القادر على كل شيء والفعّال لما يريد لدرجة أنه لا يعرف كيف يسأل “لماذا؟” بل يسأل دوماً “لماذا لا؟”.
واليوم يتضح، أكثر وأكثر، أن التأخر بنقل نافالني إلى المشفى الألماني للعلاج بعد تسممه، كان مقصوداً، وهدفه إتاحة الوقت لتبخّر المادة السامة خلال ثلاثة أيام. وذلك بعد أن تم العثور على بقايا تلك المادة في شعر وجلد نافالني. في مشهد متكرر أضحى عادة روسية، فالناشط الروسي بايتر بيرزيلوف تعرّض للأمر ذاته.
حين تعرّض نافالني للتسمم دخل في غيبوبة، وفق ما أعلنت عنه المتحدثة باسمه، كيرا يارموش، عبر حسابها في تويتر، مؤكدة أن الأطباء لم يكونوا “يعطونها المعلومات الكافية في محاولة منهم لكسب الوقت”، في الوقت الذي كان فيه المستشفى مزدحماً برجال الأمن وفقاً ليارموش، التي لم تخفِ الإشارة إلى تورط المخابرات الروسية.
ترافق الاغتيال الجسدي مع حملة اغتيال سياسية إعلامية شنتها وسائل الإعلام المؤيدة لبوتين في روسيا التي اتهمتها يارموش باتباع نهج تحريري موحّد ومبرمج يزعم أن نافالني شرب كثيراً في تلك الليلة، وأنه اليوم تناول حبة ضدّ الكحول ما تسبب بتسمّمه.
لنجعل روسيا عظيمة مجدداً
لنعد قليلاً إلى الوراء. فبعد أن تداعت بلاد السوفييت وتوابعها مثل أحجار الدومينو؛ وصل خرّيج جهاز الـ”كي.جي.بي” إلى رأس الهرم في الكرملين في عهد الرئيس بوريس يلتسين الذي قضى الهزيع الأخير من حياته مخموراً وأودع أمانة قيادة البلاد بيد الشاب الصاعد بوتين الذي وجد لزاماً عليه تغيير تقنيات العمل للتعامل مع الشعب في الداخل ومع الآخرين في الخارج دون المساس بجوهر فكرة المحافظة على قهر العباد.
وعندما وصل بوتين إلى السلطة كان مشبعاً بفكرة استعادة العظمة التي تهاوت على غير المتوقع لإمبراطورية سوفييتية لم يخطر على بال أحد أن مُلكها يمكن أن يزول ولكن النخر كان قد وصل إلى أخشابها الداخلية بسبب انصراف أرباب السفينة إلى مقاتلة الإمبريالية بسيوف من خشب في حين كان الشعب السوفييتي يخسر قوته اليومي تباعاً لأن “الأخ الأكبر” وحاشيته في بلادهم كانوا يوزعون هبات بلادهم على الرفاق الأمميين الموزعين في أصقاع الأرض كدرع ضد الرأسمالية التي ساورتهم أوهام زوالها بحسب حتمية التاريخ على يد الشيوعيين الحمر.
نافالني من الذين يؤمنون أيضاً بمبدأ استعادة روسيا لعظمتها مجدّداً، لكن ليس على طريقة بوتين، فابن الـ44 عاماً محام بارز في بلاده، درس القانون والاقتصاد في روسيا وتابع دراساته في جامعة يال الأميركية.
بدأ نشاطه السياسي قبل عشرين عاماً بتأسيس مدونة على الإنترنت، خصّصها لنشر تحقيقات صحافية عن الفساد في أوساط النخب الحاكمة، مستهدفاً الحلقة الضيقة المحيطة ببوتين. عمل مستشاراً لحاكم منطقة كيروف عام 2009، لكن السلطات الروسية سرعان ما اتهمته بـ“التخطيط” لاختلاس أموال من شركة حكومية وحكم عليه بالسجن لمدة 5 سنوات مع وقف التنفيذ. لكن ذلك الحكم كان كفيلاً بمنعه من الترشّح والوصول إلى الكرملين مستقبلاً.
استهداف بوتين
جعل نافالني من عمله السياسي والحقوقي منصة لاستهداف شامل طال شخصية بوتين وحزب “روسيا الموحّدة” ومن خلفه الكرملين كلّه بشخصياته ومسؤوليه. أنشأ وأدار منظمة لمكافحة الفساد تعتمد وسائل التأثير الأكثر قدرة على الوصول إلى الشعب الروسي، بنشر مقاطع فيديو تفضح الصفقات المشبوهة، وتشهر بالأثرياء الجدد من السياسيين والمسؤولين. وقد لاقت تلك المنظمة رواجاً كبيراً وحظيت ملفاتها بمتابعة عشرات الملايين من الروس.
الكيفية التي صنع بها نافالني اسمه، كانت عصية على المعالجة من قبل أجهزة الدولة التي كانت ترصده وتراقب تصرفاته، وكانت دعوته إلى مقاطعة الانتخابات التشريعية في العام 2011 سبباً لاعتقاله لمدة أسبوعين. لكن هذا لم يمنعه من الترشّح بعد عامين لمنصب عمدة موسكو. لم يفز حينها بل رسّخ اسمه كزعيم شاب جديد للمعارضة الروسية، حتى جاءت انتخابات العام 2017 التي كشفت عن تخوّف السلطات الروسية من نافالني حين رفضت قبول ترشّحه بسبب سجله القضائي سالف الذكر وقضية “النية بالاختلاس” التي لفّقت له وأنكرها.
لم يستسلم نافالني، بل وضع في رأسه هدفاً أوحد، تمثّل في منع بوتين من العودة إلى الرئاسة، ورأى أن الطريقة الوحيدة هي بحثّ المواطنين على التصويت العقابي، أو الامتناع عن التصويت لإفقاد انتخابات الرئاسة مصداقيتها وشرعيتها.
وقاد من أجل ذلك مظاهرات حاشدة في موسكو والعديد من المناطق. وكانت أحدث جولات الصراع بينه وبين السلطة، العام الماضي، حين داهمت قوات الأمن مقرات تابعة لنافالني، مستهدفة مئات الشخصيات المقربة منه في 41 مدينة روسية، وقامت باعتقاله مجدّداً، وحينها كشف نافالني عن مخاوفه من الاغتيال، مبرراً ذلك بظهور أعراض مرضية على جسده ترافقت مع توقيفه.
أحدث جولات الصراع بين نافالني وبين السلطة تعود إلى الصيف الماضي، حين داهمت قوات الأمن مقرات تابعة له في 41 مدينة روسية، وقامت باعتقاله مجدّداً، وحينها كشف نافالني عن مخاوفه من الاغتيال
وبعد تسمّمه مؤخراً، غرّد صديقه فياتشيسلاف غيمادي رئيس المنظمة القانونية التي أسسها نافالني قائلاً “لا شك أن نافالني قد تعرض للتسميم بسبب منصبه ونشاطه السياسي“.
وقد علت أصوات من نوع آخر، لا يرى أصحابها شبهة اغتيال في قصة تسمّم نافالني، مثل الخبير الإيطالي إيغور بيليتشاري، الذي أكد أن الأطباء الروس فعلوا كل ما بوسعهم لإنقاذ حياة نافالني، فنقلوه إلى المستشفى بسرعة كبيرة ومن ثم عالجه أطباء مهنيون، ما ينفي فرضية الاغتيال.
ويضيف بيليتشاري المختص في العلاقات الدولية أنه من الصعب تصديق أن ما حدث قد تم بأمر من الكرملين، فالغرب اعتاد النظر باستخفاف لروسيا ويعتقد أن كل قرار يصدر في البلاد يعود إلى الرئيس. وبرّر بيليتشاري، بأن المعارضة في روسيا ”أكثر تنوّعا مما يتصوره الغرب، فهناك العديد من السياسيين الآخرين الذين سيستفيدون من مغادرة نافالني الساحة السياسية“.
سواء كان نافالني قد سُمّم أو تسمّم، فإن خداع الذات الذي تمارسه السلطات في روسيا، لا يؤتي أُكله ضد الأعداء الخارجيين، بل ارتد على نحر البلاد والعباد. والثابت أنه لا أحد بوسعه الوقوف في وجه سلطات الاستبداد. سيكون المصير إما النفي أو القتل أو الاعتقال. سلطات لا تحتمل من يقول ”لا“ أو يكشف فسادها وإجرامها. من هنا غرام بوتين بأشباهه في منظومة الاستبداد في سوريا.