آبي هوفمان أيقونة شعبية تستعيدها الشاشة في لحظة ترامب – بايدن

شخصية هوفمان مبنية على السخرية من الاستعباد الذي تولده المادّة، وعلى الحقد على المال الذي قهر الإنسان.
الخميس 2020/11/12
نتفليكس ترصد نبض الشارع الأميركي بـ"محاكمة شيكاغو"

ناكف الاحتلال الأميركي لفيتنام وتمنّع عن الالتحاق بالجندية مثله مثل الملاكم الأكثر شهرة في العالم محمد علي كلاي، ومثله مثل الإعلام الأميركي الذي تسيطر عليه اللوبيات اليهودية والذي قال عنه قائد القوات الأميركية الأسبق الجنرال ويليام ويستمورلاند ”لقد هزمنا ذلك الإعلام الصهيوني”.

لم يكن آبي هوفمان مضاداً لأميركا لأنه يهودي، كما يمكن للبعض أن يحلّل، إلا أن إحساسه بضرورة الوقوف في وجه المؤسسة الحاكمة والتصدي لممارساتها بحق الأميركيين أنفسهم، كان هو الأمر الطبيعي لجيل الستينات من القرن العشرين، وأن تكون “أنتي ايستابلشمنيت” والتي تعني المعادي للمؤسسة، كان هو الموضة الدارجة في تلك الحقبة، والذي تعيده لنا شبكة نتفليكس عبر طرحها لفيلمها الطويل “محاكمة شيكاغو 7” على وقع ما يمكن أن يحدث في الولايات المتحدة الأميركية بعد رفض الرئيس دونالد ترامب الاعتراف بنتائج الانتخابات الرئاسية التي أفضت حتى الآن إلى فوز خصمه الديمقراطي جو بايدن. ولكن الأمر لم ينته بعد، كما يقول ترامب.

هوفمان أحد أولئك السبعة الذين جرت محاكمتهم في فيلم ”نتفليكس“، غير أنه كان الأبرز والأكثر قدرة على الخلود والرسوخ في وعي الأميركيين عبر الزمن، لذلك تحوّل إلى أيقونة شعبية. ولد لأبوين يهوديين في ماساشوستس الولاية التي صدّرت الفكر العلماني المنفتح إلى بقاع أميركا، ومنها إلى العالم، وقد يكون ذلك بسبب وجود معهد ”إم آي تي“ الذي سيرتبط باسم الفيلسوف العبقري ناعوم تشومسكي.

مولّد الشغب

شبكة نتفليكس وعبر طرحها لفيلمها الطويل ”محاكمة شيكاغو“ على وقع ما يمكن أن يحدث في الولايات المتحدة، تدخل على خط صناعة الوعي الشعبي، في زمن كورونا والبقاء في المنازل
شبكة نتفليكس وعبر طرحها لفيلمها الطويل ”محاكمة شيكاغو“ على وقع ما يمكن أن يحدث في الولايات المتحدة، تدخل على خط صناعة الوعي الشعبي، في زمن كورونا والبقاء في المنازل

إذا قيل عن هوفمان إنه ثائر اجتماعي أو ناشط أو ثوري، فإن كل تلك الصفات ليست كافية، بل هو محرّض اجتماعي أشعر السلطات بالخطر من خلال ثورته على الرمادية والسكون والانسحاق الاجتماعي. ولذلك كان ”مولّد الشغب“ اللقب الذي رافقه طيلة حياته. وإن كان هناك من مولّد لانتفاضة الستينات الشبابية والتي غيّرت أميركا والعالم، فسيكون هذا الشاب أحد الشرارات التي أسهمت في ذلك.

بعيداً عن الادعاءات السلطوية بالشغب والعنف، فإن هوفمان كان بمنتهى السلمية ونبذ إراقة الدماء. كان يحطّم أشياء قابلة للتحطيم، ولا تؤذي أحداً. نعم، ولكن بالمقابل كان يوقد جذوة تأخذ طريقها إلى عقول جيل كان المسؤول عن الاختراقات العلمية والمعرفية الجبارة في نهاية القرن العشرين ومطالع القرن الحالي، وعلى رأسها “الذكاء الاصطناعي”.

هوفمان الذي يظهره الفيلم، فوضوياً سليط اللسان، في دور من أداء الممثل ساشا بارون كوهين، يمكنك أن تستشف من روحه روح العدالة والإنصاف، فقد وصلت به الأمور إلى أن يقول إن ”الإله لا يمكن أن يكون موجوداً، لأنه لو كان موجوداً بالفعل، لما كانت هناك كل تلك المعاناة في عالمنا“. وعندما كتب تلك العبارة وصفه معلّمه بـ”الشيوعي اللعين”، وكانت تهمة الشيوعية كفيلة بتنسيق المرء من المجتمع الأميركي بشكل نهائي. غير أن هوفمان هجم على أستاذه وأوسعه ضرباً، ما تسبب في طرده من المدرسة آنذاك، وهي اللحظة التي يعتبر هوفمان نفسه فيها قد بدأ عمراً جديداً بعد تحرره من المؤسسة التعليمية الأميركية الرسمية.

المشاكل التي تسبب بها هوفمان تكاد لا تعدّ ولا تحصى، فبعد تأسيسه حزب الشباب الدولي ”يبيز“ وحركة ”قوة الزهور”، أعلن الحرب الثقافية ضد الجميع، وبالأخص النظام السلطوي الأبوي البطريركي الذي تحكم بالجميع أيضاً

كأحد الشباب القلق بهموم تتجاوز ما يشغل الإنسان العادي دخل هوفمان عالم “علم النفس” وحصل على الماجستير من أهم جامعة أميركية بهذا الاختصاص ”جامعة بيركلي“ في كاليفورنيا. شخصيته بنيت على السخرية من الاستعباد الذي تولده المادّة، وعلى الحقد على المال الذي قهر الإنسان. انخرط وتعمّق في ما تفعله الرسالة الإعلامية، ولم يخطر بباله أنّ ما سيفعله في ذلك العالم سيصل إلى سكان الكرة الأرضية بأسرها. كان ذلك الانخراط الخطوة الأولى باتجاه عالم السياسة الذي لم يكن يفكر بولوجه أساساً. إلا أن ما كان يفعله تحوّل إلى مدخل حاسم في هذا العالم بأسلوب يختلف عن مقاربة المتخصصين في السياسة وممارسيها. إذ ما معنى أن تقف أمام قاضٍ في جلسة محاكمة وتحاكمه أنت لا هو، وتحاكم معه المنظومة القضائية والسياسية من خلال التهكّم عليه بأسلوب لا يستطيع مخلوق أن يقول إنك من خلاله تهين المحكمة أو تحطّ من مقامها أو تنال من هيبة القضاء ومضمونه؟

تشاء صدف محاكمته في إحدى القضايا أن يكون أمام قاضٍ يشترك معه في الكنية “هوفمان”، فكان يدخل أحيانا قاعة المحكمة مرتدياً رداء القاضي، وحين يقدّم اسمه، فيظنه الحاضرون القاضي، وتبدأ عملية سخرية قد تبدو سطحية ولكنها في صلب تعرية منظومة سياسية استبدادية متحجّرة ومتهالكة. تمادى هوفمان في جرأته إلى حد أنه كان يقول للقاضي “أنت عار حتى أمام الوثنيين، وكان من الممكن أن تخدم هتلر على نحو أفضل. فكرتك عن العدالة هي الفحش الوحيد في هذه القاعة”.

الزمن يعيد نفسه

هوفمان يعد الأبرز بين أولئك السبعة الذين جرت محاكمتهم بتهمة التسبب بالعنف والشغب، غير أنه كان الأكثر قدرة على الرسوخ في وعي الأميركيين عبر الزمن.
هوفمان يعد الأبرز بين أولئك السبعة الذين جرت محاكمتهم بتهمة التسبب بالعنف والشغب، غير أنه كان الأكثر قدرة على الرسوخ في وعي الأميركيين عبر الزمن.

كان ذلك العصر عصر مارتن لوثر كينغ، وكان بدء خلاص أميركا من بذرة الحرب الأهلية التي يتخوّف كثيرون من عودتها اليوم في ظل الانقسام السياسي والشعبي الكبير بين الجمهوريين والديمقراطيين. وكان ذلك الزمن لحظة بدء انسجام مجتمعي في بلد يحكمه القانون والكل تحت غطائه. وهو أيضاً توقيت بدء ثورات الطلاب في أنحاء العالم، وكان عهداً أسقط فيه شباب فرنسا ديغول محرّر الجمهورية من الاحتلال النازي.

يختار مؤلف الفيلم ومخرجه آرون سوركين العودة من جديد إلى قاعات المحاكم وهو يدرك أن الضرورة اليوم تقتضي ذلك، بعد أن خاض في تلك العوالم مطلع تسعينات القرن الماضي في فيلم “قليل من الرجال الجيدين” مع جاك نيكلسون وتوم كروز. سوركين هو صاحب فيلم “الشبكة الاجتماعية” الذي حصد ثلاث جوائز أوسكار بينها جائزة أفضل سيناريو، و”ستيف جوبز” و”موني بول“. لكننا اليوم في زمن كورونا، زمن العزلة والبقاء في البيوت، وهو التوقيت الملائم لإيصال الفكرة إلى حيث يجب أن تصل، أي إلى جميع الناس، لا مرتادي صالات السينما وحدهم.

انخرط هوفمان وتعمّق في ما تفعله الرسالة الإعلامية، ولم يخطر بباله أن ما سيفعله في ذلك العالم سيصل إلى سكان الكرة الأرضية بأسرها

سبعة شباب تقرّر الدولة العميقة في الولايات المتحدة توجيه الاتهام إليهم بزعزعة السلم الأهلي والتسبب بالعنف والتخريب والإرهاب. ويستند النائب العام حينها إلى حيلة قانونية كانت تنص على عدم تجاوز حدود الولايات، داخل أميركا ذاتها، لتكون مفتاحاً للنيابة للإمساك بتلك الطرائد.

لا شيء يمكنه أن يمنع مواطناً أميركياً من تجاوز حدود أيّ ولاية ضمن النظام الفيدرالي، إلا في حالة واحدة؛ إذا كان ينوي ارتكاب أعمال إرهابية. وهذا كان السهم الذي سدّدته أميركا نحو شبابها. بدأت تحاكمهم على نواياهم، محاولة إثبات ذلك بفبركة الأدلّة وزرع شهود الزور. والضحايا الأمثل هم أولئك السبعة الذين كان هوفمان في مقدمتهم.

وقد شهدت السنة الحالية، احتجاجات عنيفة في أميركا، قلبت الأمور رأساً على عقب. السود والمعارضون وأصحاب الشعارات المطلبية، وكأنها تعيدنا، حتى قبل إثارة الانتخابات الرئاسية، إلى زمن الفيلم ذاته وأحداثه المثيرة.

شخصيات مثيرة

يهودية هوفمان ليست السبب في مواقفه، كما يمكن للبعض أن يحلّل، إلا أن دافعه كان الإحساس بضرورة التصدي للمؤسسات ووقف ممارساتها بحق الأميركيين أنفسهم
يهودية هوفمان ليست السبب في مواقفه، كما يمكن للبعض أن يحلّل، إلا أن دافعه كان الإحساس بضرورة التصدي للمؤسسات ووقف ممارساتها بحق الأميركيين أنفسهم

لم تكن شخصية هوفمان وحدها الشخصية اللافتة في الفيلم، كما كانت في الحياة، بل إن جميع الأبطال السبعة الذين واجهوا الاتهام الكبير حينها، كانوا من أنماط مثيرة، حتى محاميهم ويليام كونستلر الذي كان في حالة صدمة دائمة من سلوك المحكمة والقاضي الذي يتصرف وكأنه في دولة ذات نظام شمولي استبدادي وليس في أميركا، فيعاقب المتهمين ويفرض على أحدهم وهو النمر الأسود بوبي سيل، الذي كان الوحيد الأسمر البشرة، بأن يبقى صامتاً دون أن يتيح له الدفاع عن نفسه. مشهد لا يحدث كل مرّة في عصرنا، وفي بلد مثل أميركا بلاد الحرية والقانون. أما القاضي يوليوس هوفمان فبدت شخصيته كوميدية إلى جانب قسوتها وانحرافها عن العدالة، كان متطرفاً عبداً للسلطة منفذاً لإرادتها، ولم يكن يستحق سوى المزيد من الازدراء من هوفمان الذي لم يوفّر لحظة ليوجّه إليه تلك الضربات الساخرة.

تفاصيل الفيلم مصنوعة بعناية لتخاطب مشاهد هذا الزمن، وليس للعناية فقط بتوثيق قصة حقيقية. وكثيراً ما تشعر بذلك حين تستمع إلى جدال بين هوفمان وتوم هايدن، وهما القائدان الحقيقيان للشباب آنذاك، لكن لكلّ منهما طريقته وفلسفته في التمرّد. سيقول هايدن غاضباً موجها كلامه لهوفمان “مع الأسف التاريخ سيتذكرك أنت كرمز للتمرّد، ولن يذكرني أحد”.

هوفمان ليس مضاداً لأميركا لأنه يهودي، كما يمكن للبعض أن يحلّل، إلا أن إحساسه بضرورة الوقوف في وجه المؤسسة الحاكمة والتصدي لممارساتها بحق الأميركيين أنفسهم، كان هو الأمر الطبيعي لجيل الستينات من القرن العشرين

تفسير ذلك ليس معقداً، فطريق الاعتدال والرمادية التي اختارها هايدن لا تحفر في ذاكرة الناس، بينما تطرف هوفمان وآراؤه الحادة تجعله خالداً في الذاكرة الشعبية.

صحيح أن هايدن قال في شيكاغو محرّضا الشباب “إذا كان الدم سيتدفق، فليتدفق في جميع أرجاء المدينة“، إلا أنه لم يتذكر حتى أنه فعل ذلك، وحين حوكم على ما قال أنكر أنه يقصد العنف العام، وإنما دمه هو، أسوة بدم صديق له ضربه شرطي أثناء المظاهرة.

اقترح هوفمان احتقار القاضي والمحكمة وعدم الوقوف كما جرت العادة، لتقديم الاحترام من قبل المتهمين والحضور، فالتزم الجميع إلا هايدن الذي وقف بينما بقي الجميع جالسين، تلك اللحظة لم يغفرها له الأميركيون، حتى أن خادمة بيت أبرز الشهود في المحاكمة وزير العدل الأسبق رامزي كلارك عيّرت هايدمان بموقفه ذاك معبرة عن رفضها له.

اسرق هذا الكتاب

كتابه واجه مشكلات كبيرة بسبب عنوانه
كتابه واجه مشكلات كبيرة بسبب عنوانه

تسبب هوفمان طيلة حياته بمشاكل تبدأ ولا تنتهي، وبعد تأسيسه حزب الشباب الدولي ”يبيز“ وحركة ”قوة الزهور” أعلن الحرب الثقافية ضد الجميع، وبالأخص النظام السلطوي الأبوي البطريركي الذي تحكم بالجميع أيضاً، كان هوفمان مثقفاً على عكس الصورة التي يريد أن يراه الناس بها، بل كان مسلحاً بثقافة مفكّر أكثر مما يحتاجه ناشط اجتماعي شبابي. وكان يستحضر أستاذه الفيلسوف هربرت ماركيز وكتابه ”الإنسان ذو البعد الواحد“ للتنظير للتمرّد الذي كان يبشّر به.

وفي أحد مشاهد الفيلم يسأل المدعي العام هوفمان سؤالاً جوهرياً، إجابته ستحسم كل شيء؛ “هل أنت تحتقر حكومتك أم لا؟”. حينها يجب هوفمان بالقول “أنا أحترم المؤسسات الديمقراطية الموجودة في البلد، ولكني لا أحتقر شيئاً أو أحداً أكثر من هذه الحكومة”.

قبل محاكمته قاد رفاقه صيف 1967 للاحتجاج أمام معرض بورصة نيويورك، وألقى رزماً من الدولارات في وجوه رجال الأعمال خالقاً فوضى في الأجواء، بين مستنكر ولاهث خلف جمع الأوراق النقدية التي خلطها هوفمان بدولارات مزيفة، والمسرحية كانت مبنية على مبلغ لا يتجاوز 300 دولار وحسب، لكنه تمكّن من الاحتجاج في قلب العالم المالي لأميركا وزعزعة المعرض وتنظيمه. وكان يتباهى بأنه بهذا المبلغ التافه تمكّن من جعل المشرفين على بورصة نيويورك يخسرون أكثر من 20 ألف دولار لإجراءات الأمن بعد قيامه بفعلته تلك.

كتابه البديع “اسرق هذا الكتاب” واجه مشكلات كبيرة بسبب عنوانه، فهو دعوة لخرق القانون، ولذلك تمّ منع توزيعه في الولايات المتحدة وكندا والعديد من دول العالم، صمّمه هوفمان ليكون دليلاً للشباب يشرح لهم فيه تصادم الثقافات ويكشف أساليبه حول حربه ضد الحكومة، ويعلم فيه القراء تقنياته الخاصة للحصول على ما يلزمهم من أجل مواصلة الاحتجاج.

تم بيع أكثر من ربع مليون نسخة من الكتاب في أول ستة أشهر فقط، بعد أن طبعه هوفمان بنفسه، لأن أكثر من 30 ناشراً لم يجرؤوا على تبنيه، ولم تقبل أيّ وسيلة إعلان الترويج له. ولكن هوفمان بروحه الساخرة كان يقول ”يا له من أمر محرج عندما تحاول الإطاحة بالحكومة، فتنتهي بقائمة أكثر الكتب مبيعاً”.

عاش هوفمان حياته كلها ناذراً نفسه للتمرّد والرفض وتقديم الجسد على أنه معرض للأفكار، من خلال السترات الجلدية والدراجات النارية والشعر المرسل، إلا أنه كان أحد أبرز منظري اللاّعنف في أميركا، ومات بطريقة غامضة في العام 1989. لكنه يعود اليوم، كما نرى ويرى الجميع.

12