"أقلمة السرد العربي".. كتاب يبحث في منهجيات السرد وتقاليده

نادية هناوي تستجلي التاريخين الأدبي والنقدي عبر عينات عربية وأوروبية.
الخميس 2023/12/07
السرد العربي أثر في أدباء الغرب

التأثير والتأثر ظاهرتان لازمتا تاريخ الأدب والإبداع البشري عموما، فتأثر أدباء بغيرهم، كما أثر أدباء في أدباء آخرين، وهذا التأثير أو التأثر لم يكونا رهن جغرافيا أو لغة واحدة، بل يتجاوزان ذلك، مثلا نجد تأثر أدباء الغرب بالآداب الشرقية والعربية خصوصا، ولكن رغم أن الظاهرة صحية وضرورية فإن هناك اليوم من يسعى لطمسها، وهذا ما تقف ضده الناقدة والأكاديمية العراقية نادية هناوي.

يقوم كتاب “أقلمة السرد العربي من العصور الوسطى حتى القرن التاسع عشر” وهو الكتاب الذي يحمل رقم 30 في سلسلة مؤلفات الأكاديمية والناقدة العراقية الدكتورة نادية هناوي، على فكرة تداخل التخصصات وتنوع المنهجيات في دراسة السرد العربي والكشف عن تقاليده المندثرة والمستعادة والبحث عن مرتكزاته التي عليها قامت فاعلية هذا السرد في ماضيه وفي حاضره كأنواع وأنماط وطبائع وتحولات وتفاعلات وعلاقات وقضايا.

وتذهب المؤلفة في مقدمة كتابها، الصادر حديثا عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع ببغداد، إلى أنها بحثت جذور هذه التقاليد في كتابها “علم السرد ما بعد الكلاسيكي: أقلمة المرويات التراثية العربية” وتكشف أنه بالرغم من سعي الإنسكلوبيديات والموسوعات في كبريات الجامعات الغربية إلى جمع التقاليد السردية العالمية ضمن مرحلة أو مراحل تاريخية معينة وتعريف النقاد بها، فإن ذاك السعي ظل مقصورا على حدود ما أنتجه الأدباء في العصر الحديث الذين وفي خضم سعيهم إلى التحرر مما هو معتاد في الكتابة السردية، استعادوا بعض تقاليد السرد القديم بحثا عن نظام جديد به يكتبون ويؤلفون قصصهم ورواياتهم.

تأثر الغربيين بالعرب

نادية هناوي تبحث عن العناصر المشتركة بين القديم والحديث والأصيل والمقلد
نادية هناوي تبحث عن العناصر المشتركة بين القديم والحديث والأصيل والمقلد

ليست الاستعادة التي قام بها الأدباء سوى اهتداء الإبداع بالإبداع من دون مساعدة إنسكلوبيديات أو هداية موسوعات تقيّد التقاليد وتعرِّف بها. ومن هنا تأتي الأقلمة كمفتاح نحو علمنة السرد العربي القديم من ناحية الدلالة والعلاقة بمفاهيم مجاورة كالمقارنة والتهجين والتخصص والاستشراق والأصل والمصدر والتناص والنص المقيد والترجمة.

واستندت المؤلفة في ذلك كله إلى بعض دراسات الأقلمة الغربية ومنها “دراسات الأقلمة على مفترق طرق” و”الأقلمة والمصادرة” و”دليل أكسفورد لدراسات الأقلمة”.

ومما تؤكده هناوي أن ما جرى من دراسات مقارنة بين السرديات العربية الكلاسيكية وأشباهها في السرد الأوروبي، إنما وقع خارج إطار جدلية التأصيل/ التقليد ومن ثم كانت أدوارها في البحث عن العناصر المشتركة التي تساوي القديم بالحديث، والمغمور بالمشهور، والأصيل بالمقلد، والسابق باللاحق. والسرد العربي أصيل في نظامه بوصفه الواهب الذي يجمع بين قدم النمذجة ودوامية النظام، وهو ما تدلل عليه تقاليده القائمة على قاعدة لا واقعية من اللامحاكاة وعليها بنيت مختلف صور السرد الواقعي الذي قوامه المحاكاة.

وعن الكتاب تقول المؤلفة “إنه يأتي خطوة ثانية في طريق استكمال مشروع الأقلمة من خلال رسم صورة مونوغرافية لما أنجز من دراسات الأقلمة في مخابرها الغربية وفهم علاقة الأقلمة بالمقارنة والتهجين والتخصص والاستشراق ثم التمثيل الفني على الصيرورة الإبداعية بعينات سردية عربية وأوروبية منتقاة، كشفا عما في السرد العربي من مظان ومفاتيح تؤكد عالميته سواء في اتباع أنظمته أو في انتقالها التاريخي وتفاعلها المعرفي مع سرديات الأمم الأخرى، ودراستها دراسة علمية لا ترتكن إلى آراء تحنطت مفاهيمها أو مناهج تقادمت، بل باستقراء ما يستجد وقولبته في إطار يناسب تجاربنا الأدبية وتوجهاتنا النقدية. وليس مثل أهل الشأن من هم أحق بمعرفة شأنهم كما أن لا معرفة ينالها الشأن نفسه مثل معرفة أهله به، وهذا الشأن هو سردنا بكل ما فيه من إبداعات وتحولات”.

وتسعى دراسات الأقلمة إلى الإفادة من التراكمات المعرفية نظريا وتطبيقيا من أجل توجيه الخطاب النقدي الدائر حول نظرية باختين في التناص توجيها جديدا يقوم على عمليات التأقلم ما بين الخطابات الأدبية وغير الأدبية باتجاه صنع خطاب عالمي عابر.

تستهل هناوي الكتاب بقولين لمفكرين غربيين الأول هو أرنست كاسيرر “هناك اعتقاد شائع يتكرر دائما وهو أن القرن التاسع عشر لم يكن قرنا تاريخيا فحسب، بل إن هذه السمة هي التي تميزه تمييزا تاما عن العصور السالفة كافة. ولوحظ أن ذلك هو سبب استحقاق هذا القرن للشهرة وإن كان الجميع لم يشتركوا في التهليل لها”. والآخر بيتر جران “الواقع أن البحث الأدبي يبين حاليا أن أحد الاستخدامات المهمة للرواية هو استخدامها كأداة تمكن الكاتب الأوروبي من أن يؤكد من خلالها هيمنته على من ليس أوروبيا”.

تاريخان أدبيان

إدجار آلن بو وواشنطن إرنفج أقرا بما في الموروث الإسلامي وحكايات الجروستك والأرابيسك وألف ليلة وليلة من تقاليد
إدجار آلن بو وواشنطن إرنفج أقرا بما في الموروث الإسلامي وحكايات الجروستك والأرابيسك وألف ليلة وليلة من تقاليد

تشير المؤلفة إلى أن الأدباء الأوروبيين في عصر النهضة والتنوير لم يكونوا يرون في التأثر عقدة ولم يشعروا بحساسية تجاه الآداب القديمة الشرقية عامة والعربية خاصة، بل كانوا يرون فيها مصادر إلهام تمدهم بالتقاليد الأدبية، فساروا عليها بوعي جمالي خالص ومنهم كونراد مثلا الذي استعمل رومانسية المغامرة، وحافظ على الأشكال القديمة لفكرة المغامرة وعبّر عن رحلته إلى الكونغو عام 1890 بأنها سببت إحباطا عنده من الإمبريالية مما دفعه إلى كتابة “قلب الظلام”.

 كما أن بعض أدباء القرن التاسع عشر مثل إدجار آلن بو وواشنطن إرنفج أقروا بما في الموروث الإسلامي وحكايات الجروستك والأرابيسك وحكايات ألف ليلة وليلة من تقاليد. وكانت لبعض نقاد القرن العشرين آراء مماثلة فجون بارث تبنى مفهوم التخييل الخرافي fictionalization ليدلل على أن الرواية ليست من ابتكار أدباء القرن التاسع عشر، بل هي حصيلة تقاليد سردية قديمة وراسخة.

إدجار آلن بو وواشنطن إرنفج أقرا بما في الموروث الإسلامي وحكايات الجروستك والأرابيسك وألف ليلة وليلة من تقاليد
إدجار آلن بو وواشنطن إرنفج أقرا بما في الموروث الإسلامي وحكايات الجروستك والأرابيسك وألف ليلة وليلة من تقاليد

ويتوزع الكتاب الذي يقع في أكثر من أربعمئة صفحة بين بابين رئيسين يستجليان التاريخين الأدبي والنقدي من خلال عينات سردية عربية وأوروبية. وحمل الباب الأول عنوان “نظرية الأقلمة: واقعها العالمي وموجباتها العربية” وفيه ثلاثة فصول، تخصصت بتحديد مفهوم الأقلمة كمنظور وكممارسة، وذلك من ناحية: الأحادية، التأصيل، التقاليد، النماذج ثم مقتضيات أقلمة السرد العربي من ناحية: القاعدة والتأثير وتاريخ الأدب وتاريخ النقد.

واشتمل الباب الثاني المعنون بـ”إجرائية أقلمة السرد العربي من القرن التاسع الميلادي حتى التاسع عشر” على ثلاثة فصول، دار الفصل الأول حول أقلمة سرديات الجاحظ بأربعة مباحث وتناول الفصل الثاني أقلمة الحكاية الهزلية بثلاثة مباحث. وتخصص الفصل الثالث بأقلمة المقامة مع تمثيلات من السرد العربي والسرد الأوروبي، وانتهى الكتاب بخاتمة أجملت فيها الباحثة أهم ما توصلت إليه من نتائج.

يذكر أن الأكاديمية والناقدة العراقية نادية هناوي، حاصلة على درجة الدكتوراه في فلسفة اللغة العربية وآدابها ونالت كرسي الأستاذية، وهي تعمل حاليا أستاذة للنقد الحديث بكلية التربية في الجامعة المستنصرية، وقد قدّمت أكثر من 100 بحث علمي منشور في مجلات عربية وأجنبية، بجانب العشرات من المشاركات بمؤتمرات وفعاليات عراقية وعربية ودولية.

وأثرت هناوي المكتبة العربية بـ30 مؤلفا كان آخرها الكتاب الذي بين أيدينا اليوم وهو “أقلمة السرد العربي من العصور الوسطى حتى القرن التاسع عشر”، ومن بين مؤلفاتها الأخرى نذكر كتب: السرد القابض على التاريخ، 2018، وموسوعة السرد العربي معاينات نقدية ومراجعات تاريخية، 2019، ونحو نظرية عابرة للأجناس، 2019، وقصة القصة، 2021، والسونيت في شعر حسب الشيخ جعفر، 2022، وغاليانو صياد الكلام والعبور الأجناسي، 2022، وعلم السرد ما بعد الكلاسيكي، بثلاثة أجزاء 2022، 2023، والوهم والحقيقة في تجييل الشعر العراقي، 2023، والنسوية العمومية، 2023.

12