أفق الانتظار في المسرح

رغم اهتمام النقاد الحداثيين العرب بنظرية التلقي في تحليل النصوص الأدبية، بوصفها دراسة لعملية التأويل أو توليد الدلالات في إطار علاقة القارئ بنص ما، فإن عددا قليلا جدا منهم التفت إلى هذه النظرية في حقل التحليل المسرحي، الذي تبرز فيه قضية التلقي بشكل أكثر حساسية وإلحاحا من أي نمط آخر من أنماط الإبداع الأدبي والفني، ففي المسرح تتجلى استجابة المتلقين فورا، عبر التواصل واختبار آفاق التوقع، ما يجعله أفضل مجال لدراسة عملية التلقي، وقد يغير المخرج والممثلون من أسلوب أو شكل العرض المسرحي وفق استجابة هؤلاء المتلقين، في حين أن الرسّام أو كاتب الرواية أو القصة أو الشعر يبدع في عزلته، ولا تلتقي أو تختلف آفاق توقعات المتلقين، على نحو مباشر، مع آفاق منتجي تلك الأشكال الفنية والأدبية.
إن مفهوم “أفق التوقع″، أو “أفق الانتظار” يحتل موقعا مركزيا في نظرية التلقي، وهو مفهوم جمالي يلعب دورا مؤثرا في عملية بناء العمل الفني والأدبي، وفي نوعية الاستقبال التي يلقاها ذلك العمل انطلاقا من فكرة أن المتلقي يقبل على العمل وهو يتوقع أو ينتظر شيئا ما.
ويُعد هذا المفهوم بمثابة حجر الزاوية في نظرية هانس روبرت ياوس، الذي ركّبه من مفهومي “الأفق” عند غادامير، و”خيبة الانتظار” عند كارل بوبر، حينما وجد أن تطبيقهما في فلسفة التاريخ وفلسفة العلوم يحققان رغبته في البرهنة على أهمية التلقي في فهم الأدب، والتاريخ له.
ويأخذ توقع المتلقين في حقل المسرح منحيين، الأول منحى درامي يتجلى في توقع تسلسل ما للأحداث في المسرحية، وطريقة معينة لحل الصراع، أو الصراعات في انتظار النهاية، ومن ثم فإن عنصر التشويق يُبنى انطلاقا من هذا التوقع. الثاني منحى جمالي يتجلى في توقع أسلوب ما للعرض وشكله، وصبغة معينة له: مضحك، أو مأساوي، أو تهكمي، أو عبثي… إلخ.
ويمكن أن يؤدي أفق التوقع، كجزء من عملية التلقي، إلى الشعور بالرضا عندما يتجاوب العرض مع توقع المتلقي، أو إلى الشعور بالخيبة لأن العرض يصدم توقعاته، ويعاكسها، أو إلى الشعور بالمفاجأة حين يقدم العرض شيئا جديدا لا يعرفه المتلقي، فيلعب، بذلك، دورا في توجيه الاهتمام إلى نواح جمالية وتكريسها.
يقسم الناقد جوليان هلتون توجه نظرية التلقي في حقل المسرح إلى وجهتين: وجهة تزامنية، ووجهة تعاقبية، فتفحص الأولى عروضا مسرحية محددة تقدَّم أمام متلقين محددين، وتسعى إلى قياس وتقييم تأثيرها فيهم، وترصد الثانية التغيرات والتوجهات المختلفة التي طرأت على الذائقة المسرحية عبر التاريخ، وتحاول تفسير شعبية بعض المسرحيات، والأساليب المسرحية في عصور معينة، واختفائها، أو الانصراف عنها في عصور أخرى.
وقد ترتب على نظرية التلقي أن تحول الاهتمام، في عملية تحليل العرض المسرحي، من التركيز على نوايا المؤلف والعملية الإبداعية، إلى التركيز على جهد المتلقي في إنشاء ذلك العرض خلال عملية التلقي.
وتنشط عملية الإنشاء هذه في فجوات العرض، كما جرى العرف على تسميتها، أي مناطق الغموض والتورية والقلق التي تفرض على المتلقي مهمة تفسير المعلومات المرسَلة إليه، وإكمالها من واقع خبرته وتوقعاته، فتحول إلى مشارك إيجابي في عملية إنشاء الدلالة.
ويجسد الانتباه إلى فجوات العرض، والاهتمام بها كعنصر فاعل في إنشاء الدلالة، حجم الإضافة التي حققتها نظرية الاتصال برمتها في مجال الدراسات الأدبية والمسرحية.