أعمال جبر علوان.. اقتران بالحداثة في علاقة تبادل الأثر والتأثير

الفنان التشكيلي جبر علوان نخلة عراقية بل لنقل غابة نخيل عراقية، تمتد جذورها في حضارات بابل حيث ولد وحدودها تمتد في الآفاق.
لهذا إذا كانت اللوحة الفنية عادة تقول الكثير إِلَّا أن لوحة علوان تقول ما لا ينتهي، والجميل عند علوان أيضا أنه يتكئ على اللون كل الاتكاء، اللون الذي يخلقه، ولذلك يمنح مخلوقه كل الحرية إلى درجة أنها هي التي تقود علوان وليس العكس فالقرار ليس له.
حين قررت أن أقرأ أعمال علوان انتابني قلق ضمني لا أعيشه عادة في قراءاتي الكثيرة لفنانين آخرين، فمنذ زمن بعيد نسبيا لي رغبة جامحة في الاقتراب من عالمه، فعمت كثيرا بين أعماله، أحاورها وتحاورني، أسمع هسيس أسئلتها وأرسم لها أسئلتي، نبدأ بحوار صامت وبسمع وطرح إجابات صامتة لا تنتهي، ولم أتهيب في كل قراءاتي بقدر تهيبي هنا.
هذه المرة مع أعمال علوان، وحين الغوص لن تخرج سويّا، لا بد أن تتلطخ بألوانه النقية كروحه والصافية كقلب ممو حين دقّ لزين، ومع هذا النقاء الذي يتجاوز حد الإدهاش أيضا تحمل صمته، وتخلق تداعيات مستوحاة من أجراس الحكاية المختلفة بمكوناتها وبوقائعها وبفضائها الزماني/المكاني، فينبغي النظر إلى أننا أمام تجربة إبداعية تحمل كل دلالات التميز بوصفها تجربة تجري ضمن سياق يحمل عدة محاور متداخلة ومتكاملة.
الواقع السردي عند علوان واقع تشخيصي ويكاد يكون الأنجح في هذا المجال، فهو يخلق متلقيا افتراضيا في صياغة عمله بألوان تخصه هو وحده، ثم يحيل ذلك المتلقي بعالمه الافتراضي إلى مرجعية مختلفة كان قد نهل منها جزءا من تجلياته الجمالية، وبحسب الآفاق المفتوحة لعوالمه يتعامل مع مسافاته ليسهم في إثراء النص الذي ينتجه والذي سيغدو نصا مشهديا وبصريا فيه من التخيّل التداولي ما يسمح له بإضافات تواصلية لن تلغي دور المتلقي في إعادة إنتاج العمل وتأويل دلالاته حسب ما يرى وما يحس.
علوان يرسم قداسة حول أعماله ويزرع هذه القداسة فيك، ولهذا عليك بالوضوء وأنت تقترب من حرمه، فهو منذ قرابة نصف قرن وهو يبني هذا الحرم الجميل ناهلا من إرث روما حيث درس وعاش ومن ذاكرته البابلية حيث ولد وحيث قصص الأولين فكيف ستلد دوائر الزمن عنده، لا أسماء، لا أزقة ولا عناوين فالحالة شديدة التوقعات تحتاج إلى رصد صامت ثم مناقشتها بدلالات إيحائية قد يجعلها علوان أرجوزة مساء لصوفي يبحث عن الله في هالاته أو أرجوحة عشق تجر المتلقي إلى تأويلات لا تنتهي لتأسيس علاقات تكوينية بغية الوقوف بحيادية أمام تيارات تبوح بها ألوان علوان.
لهذا لا بد أن تكون عاشقا للون وأنت تقترب من تجربة هذا الفنان العراقي ومن عوالمه، وهو ما يجبرك على التفاعل الحي في لجة تجلياته المذهلة وبموازاة التعاطف التام مع تجاوبك مع التغييرات التي ستطرأ على الحالة بوصفها انفجارا ضمنيا للحراك الجميل الذي يفضي إلى عمليات تقارب الزمان/المكان وبشبكة فاعلة مؤثرة لكل حالات التحديث المقترنة بالحداثة في علاقة مع تبادل الأثر والتأثير.
ينشغل علوان، بوعي محدث، بتحولات مغيِّرة ومتغيِّرة ضمن فضاءات لافتة، الصعود فيها مقترن أيضا بأنواع متميزة من صياغات إبداعية تشمل استكمال توظيف جديد للميراث المتراكم في جهاته والمتقاطع مع محاكاته من وجوه الانتقال إلى ذروة الخلق، فهل هذا يعني أن علوان يفسخ الشراكة بين الذات والمكان؟ في أعماله متسع من التجريب ومتسع من تقنيات لا يقننها بل يتيحها رحلة ينبغي له ولمتلقيه أن يخوضاها معا حتى ينبثقا معا من داخل العمل، فعلوان لا يقيد نفسه ولا متلقيه بزمن الضوء، بل يعيدها تجربة حتى يخلق خلقا جديدا يجعل منها مجالا ممتازا ينطلق منه وبعمل تغييري من وعيه ضمن مفهوم جديد لعملية الخلق.

