أعمال السوري خليل عبدالقادر تجوب مدن السويد لتعرف بنفسها وهويتها

الفن يبني الإنسان والأوطان ضمن مشروع جمالي إنساني.
السبت 2022/05/07
فنان يحمل نساءه معه أينما ذهب

يؤمن الفنان التشكيلي السوري خليل عبدالقادر أنه ليس بالحرب وحدها تفتك الحقوق، بل للفن دور كبير في تغيير مصائر الشعوب وثقافاتها والتعريف بها وبقضاياها. لذلك نجده يحمل أعماله سفيرة لسوريا في المهجر، تحط رحالها هذه المرة في المدن السويدية لتجمع المغتربين العرب وحنينهم إلى الأوطان وتعرّف لدى الغرب بالفن السوري الذي لم يعد يملك ترف الانفصال عن الواقع السياسي والاجتماعي المؤلم.

حين اقترحت علي صحيفة بينوسا نو، القلم الجديد الصادرة عن الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الأكراد في سوريا، أن أقوم بإعداد ملف عن الفنان التشكيلي خليل عبدالقادر لم أتردد بالموافقة، وجدت نفسي متحمسا لذلك، فخليل يستحق ذلك وهو من القامات التشكيلية الهامة لا في الجزيرة السورية فحسب حيث يشكل ضلعا مهما من أضلاعها إلى جانب عمر حمدي وعمر حسيب وبشار العيسى وصبري رفائيل وحنا الحايك وبهرام حاجو وزورو متيني وعزو الحاج وأحمد الأنصاري وحسن حمدان ويوسف عبدلكي ومحمد أمين عبدو وبرصوم برصوما ومحمد صالح موسى وآخرين، بل ضلعا مهما من المشهد التشكيلي السوري عامة وله حضوره الفاعل فيه.

كان ذلك في أواسط العام 2015 وتم نشر الملف على جزأين في عددين متتاليين من الصحيفة المذكورة، وبمشاركة الكثير من أقلام الأصدقاء من الكتاب والشعراء والنقاد.

أسوق هذا الكلام وأنا مقبل على الكتابة عن مشروعه الكبير الذي يقدمه في مملكة السويد، فحين يحمل فنان بحجم خليل 427 عملا فنيا من ألمانيا متوجها بها إلى السويد ليعرضها في سبع مدن منها سيبادر إلى أذهاننا الصدى الذي سيخلقه هناك، وإلى أي مدى يستطيع أن يضج الأمكنة بها ويحرك ماءها، وإلى أي بعد يستطيع أن يمضي حتى يترك الأثر.

وهذا الفعل هو بحد ذاته مغامرة، فلولا تجربة الفنان الطويلة والمثمرة والمختلفة، ولولا ثقته بتاريخه الفني ورحلته الطويلة الجميلة في هذا العالم وبريشته، ولولا جرأته التي يتحلى بها لما أقدم على هذا المشروع والذي أستطيع أن أقول عنه مشروع بدء الثورة الجمالية التي بها وحدها نستطيع أن نقدم ذواتنا للآخرين ونبين حقوقها المفقودة لهم.

وخليل هنا وما يقوم به لم يقم به كل ساستنا الذين لوثوا حتى أرواحنا ولم يتركوا زاوية فينا لم يطلقوا عليها رصاصاتهم المسمومة، ويأخذوننا من مأتم إلى آخر، ويقول لهم لا يمكن أن تقيدوا أناسا تنفسوا الشمس وتلحفوا السماوات في متر مربع من الصراخ والجعجعة والأقمشة التي خلقت لتكون أعمالا فنية تنثر الحب والجمال والمعرفة في هذا الكوكب الصغير، ولا يمكنكم تحويلها إلى أكفان وبيارق لا دلالات لها إلا الموت والقتل.

وبمشروعه هذا يرد عبدالقادر على هؤلاء بمشروع فني جمالي وبأن استخدام هذا الطريق أنسب وأكثر فاعلية من الذي يرسم ويمسرح على الأرض بإخراج لكائنات لا علاقة لها بنا إلا بما نعصر وترطب حلوقها، أو بما يملأ جيوبها، مهما كان الطريق إلى ذلك يحتاج إلى أرواح ودماء، فكل قطرة منها، كل شهقة منها تعادل كل الأكاذيب التي ترسم في الهواء.

خليل حمل نساءه على امتداد نصف قرن ليقدمهن نحو محاورات هي بمنزلة روحه التي تنبض فيهن

هذا الاستطراد يحضرني وأنا أجد أن هناك لغة لها قيمتها قادرة على التعبير وإيصال كل ما نبغي إليه بها وبها أيضا تجمل الطرق وتقرب الخصوم قبل الأصدقاء، لغة تجعل من الحياة قيمة تستحق أن تعاش وأن تبنى، ومهما كانت الاختلافات فبمقدورها أن تقر بوجود الآخر مهما كان لونه أو دينه أو جنسه، أو نمرة رجله.

ويقولها خليل في أعماله وفي تصريحه لإحدى الوسائل الإعلامية التي كانت تقوم بتغطية المشروع “ليست بالحرب وحدها تؤخذ الحقوق، بل بالفن” وهذا هو الأكثر قوة والأكثر فاعلية والأكثر تعبيرا، وهي مقولة تكاد تلخص هدف مشروعه هذا، بل هدف الفن والإبداع برمته، وهي أنجع وسيلة وأرقى لغة في بناء الإنسان والأوطان.

 كانت الافتتاحية في مدينة ساندفيكن السويدية بتاريخ الثالث والعشرين من أبريل الماضي بعرض 137 عملا وبحضور نخبة من أصدقاء الفنان ومحبيه الذين قدموا من دول أوروبية عدة ليشاركوه الفرحة في رفع منسوب النجاح لهذا الإنجاز الكبير كجوان حاجو وجوان فرحان والعائلة الموسيقية وليد حموتو وملك مختار وعلي شير وآخرين، وبحضور جمهور كردي وسوري وسويدي مع الكثير من وسائل الإعلام المختلفة.

تابعت مجريات الافتتاح على البث المباشر الذي كان يطلق من محبيه، وكنت أجد علامات الرضا والفرحة عليهم جميعا وإن كنت أقرأ خليل وكأنه كان يبحث عن شيء ضاع منه، أو عن أحد ما لا مبرر لغيابه أو غيابها، فكان المفروض أن يكون موجودا، لكنه بدا كأنه كان يبحث عن جزء منه سقط سهوا أو رغما بين ألوانه وتاهت فيها، وكان على يقين بأنه أو بأنها حاضرة بكل قوة وفي كل ركن من المكان فهذا الشيء يسكن في الأعمال بعمق وتمايز، وفي قلبه بكل نبض.

كان خليل يتنقل بين زواره بطقمه الأبيض الكلاسيكي وقبعته التي باتت جزءا منه وكأنه خارج من إحدى الأساطير القديمة ليروي لنا رحلة نصف قرن وربما أكثر، ليروي لنا مشاهداته وآراءه وأفكاره عن الحقائق المرة، ولا تشغله كل بهرجات العالم، فاندفاعاته وكل جوانب ذاته الخاصة هي التي كانت تمتد بهويتها، برغبتها الحرة.

الفنان السوري لا تخذله ذاكرته، لا البعيدة منها ولا القريبة، كما لا تخذله نساؤه حين يطلب منهن الخروج إلى السطوح

وبتعبير آخر كان خليل ينغمس في مناجاة طويلة حين يرى الجمهور وهو يدلف إلى داخل المكان، فكان بإمكانه أن يضعهم بشخصياتهم المختلفة داخل مؤثراته وفعلها كثيرا، ويصعب الإحاطة بكل زوايا الحالة هنا، وحدها الإضاءة واللون وحركة الشخوص والموسيقى تكون إيقاعات للتعبير دون أخذ الاعتبار لاستجابات الجمهور المختلفة للمشاهد التي يخلقها ويديرها بثقة واحتراف.

عبدالقادر حمل نساءه اللواتي خلقهن على امتداد نصف قرن وأكثر ليقدمهن دفعة واحدة نحو محاورات هي بمنزلة روحه التي تنبض فيهن، وبدرجة ما فهو لا يضلل متلقيه بهن بل يدفع بهن نحو الضوء وهن يسردن لذلك المتلقي بفيض من أوجاعهن وأفراحهن، عن آلامهن وآمالهن، عن حبهن وعشقهن، عن جمالهن وخيباتهن، ويعرض لبعضهن بالتفصيل ما يقربهن من ذواتهن وهذا لا يكفي لإطفاء عطشهن الظامئ إلى المعرفة والحرية والحياة بعد كسر النطاق الذي ولدن فيه، فهو أقصد خليل يكرس معظم طاقته لهن لاستكشاف حياتهن وهن يمضين من العتمة إلى الضوء وكأنهن من القساوة بأنماطها المختلفة، يشار إليهن بما يمتلكن من سمات تشكل أحجار بنائهن في الإدراك عامة والإدراك الفني خاصة.

كما أن الجوانب الخاصة لكل منهن تكاد تشكل الموضوعات التي تجعل المتلقي حساسا لهن وهذه مهمة للوصول به إلى ذلك الإدراك الجمالي وإبراز حساسيته للألوان والقد والاتجاهات، وهذا الأسلوب الاستكشافي مرتبط إلى حد ما بسلوك التذوق الجمالي ذاته والذي يتم ربطه بحب الاستطلاع وما يتبعه من الدرجات المنخفضة منها أو المرتفعة تبعا لتلك الألفة بين مفرداتها أو غرابتها، وإن كان لدى خليل ميل كبير لإظهار انطوائيتهن مهما كانت اللحظة التي يعشنها.

وبغض النظر إن كانت هذه اللحظة مفرحة أو محزنة، حتى وهن يتأملن أو يرقصن، مع بعض التعديل في ضوء تصوراته هو، ويتسم هنا أسلوبه بالتعبيرية غير التقليدية والتي تفضل بشكل خاص قيم العطف ويؤيده على ذلك الاتزان التام لجوهر التكوين الفني، مع عدم الارتباط بالمسايرة الاجتماعية والطقوس، فنزعاته غير التقليدية في التفكير والسلوك تمنحه بالضرورة خصائص شكلية لعمله الفني وهذه وحدها كافية لحدوث التذوق وإن كان عالم الفن ليس مفتوحا للجميع، فلكل فرد جهده في الفهم والتذوق، وله سماته الشخصية والمعرفية للخروج بتلك التفضيلات الجمالية الكثيرة.

لوحات تسترجع نساء متمردات
لوحات تسترجع نساء متمردات

والخلاصة التي قد نتوصل إليها بأن خليل يملك وسيلة تعبير تتسم بالمعارضة والتمرد والخروج عن المألوف، ويظهر ذلك في تكويناته قبل إظهاره في ملابسهن وطريقة تصفيف شعرهن ومبالغاتهن في الأداء والحركة وغير ذلك من الخصائص الفرعية، الخلاصة التي تقول إن خليل خلقهن قبل نصف قرن وأكثر وهن بأكثر ملامحهن وضوحا حتى بتن دونها وهن على مشارف الخمسين وربما تجاوزنها أيضا، فشخوصه فقدن الكثير من تلك الملامح حتى تهن فيها وتلاشت تماما.

الفنان خليل لا تخذله ذاكرته، لا البعيدة منها ولا القريبة، كما لا تخذله نساؤه حين يطلب منهن الخروج إلى السطوح، فيحضرن وكأنهن قادمات من أساطير الأولين رغم يقيني بأنهن تلبدن بشظايا خليل وأسطورته الخاصة، لكنهن رغم ذلك فهن متمردات عليه، وحدهن يتحكمن بطرائق علاقاتهن وتشابكاتهن نحو بناء دلالاتهن المنشودة، والتي بدورها تضعنا في حضرة الأبعاد التي تنهض النص لابتنائها، فتتوالد الصور في ما بينها لتبتني المشاهد التي تتولى بناء دلالات النص.

ما يقدمه الآن خليل لا أسميه معرضا ولا حتى مجموعة معارض، بل مشروعا فنيا يخصنا بقدر ما يخصه هو، وأتمنى أن نجد وهو معنا ليكون هذا المشروع صرخة لمشروع آخر وهو تأمين مكان كبير يعرض فيه منجزه ونساءه وأعماله جميعا والتي تفوق الألف في مكان واحد تكون بمثابة تحقيق حلمه وتحقيق حرصنا على هذا الإرث ليبقى على مدار عمر وتاريخ، فهل ستصحو الأحاسيس الجمالية والضمائر الإنسانية لمن يملكون الإمكانية في تأمين ذلك وتحقيق هذا الحلم الذي سيبقى كمتحف يضم أعماله وكل ما يخصه وهذا أجمل وأكبر تكريم من الممكن أن نحققه لفنانينا وهم بيننا، أن نقدمه لهم وهم ينبضون في أرواحنا.

خليل عبدالقادر ولد في قرية حسي أوسو التابعة لعامودا عام 1955، نزح مبكرا منها إلى الحسكة ليعيش فيها أكثر حياته قبل خروجه منها إلى أوروبا وتحديدا إلى ألمانيا قبل عقود ثلاثة وربما أكثر، قدم معرضه الأول في مصياف عام 1975، من الفنانين القلائل الذين يتنفسون الفن ويعيشون به وفيه، فرغم السن والمرض الذي يلاحقه إلا أنه مازال يقفز أمام لوحته كشاب في مقتبل العمر، وجدناه عاشقا وهو يداعب مفاتن فضاءاته بريشه حين قرر أن يرسم عملاً مباشرا أمام الجمهور كإحدى فقرات برنامجه الذي اغتنى بوصلات موسيقية سويدية وكردية لأسماء باتت معروفة على امتداد الجهات، نعم بدا عاشقا بكل مشاعره حين هب في الافتتاح مشمرا عن أحاسيسه وبدقائق يخرج لنا بلوحة تتحدث عنه طويلا وعن نسائه كثيرا، لوحة تنبض بعطر خليلي، العطر الذي سيبقى فواحا طالما بقيت الأمكنة باقية ونابضة.

14