أطول حرب: كيف يرى الأميركيون غزوهم لأفغانستان

ترك الأميركيون وراءهم صورا مأساوية لأفغان يتشبثون بعجلات الطائرات ويسقطون قتلى في مطار كابول، وفي الجانب الآخر تسببت سيطرة حركة طالبان المتشددة على أفغانستان بصدمة وخيبة أمل واسعة في صفوف قدامى المحاربين الأميركيين.
واشنطن - لم يتوان جنود أميركيون عملوا في أفغانستان عن التعبير عن الصدمة وخيبة الأمل بعد السقوط المذل لكابول على أيدي مقاتلي حركة طالبان المتشددة. ولم يكن المشهد المأساوي في مطار العاصمة الأفغانية سوى تذكير بأن عملية سايغون تتكرر مجددا في المطار الذي شهد مآسي متتالية منذ فرار الرئيس الأفغاني أشرف غني والفوضى التي عمت البلاد.
وتقترب أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة من نهايتها مع الخسارة الفادحة أمام العدو الذي هزمته منذ عشرين عاما، وسط صدمة كبيرة من الانهيار السريع للحكومة والجيش اللذين دعمتهما واشنطن، بالإضافة إلى عمليات إجلاء فوضوية عمت مطار كابول.كان هؤلاء الجنود يعتبرون أنهم حققوا نصرا على تنظيم القاعدة الذي اتخذ من أفغانستان مقرا لعملياته الإرهابية منذ بداية غزو الولايات المتحدة لإسقاط حكم طالبان قبل نحو عشرين عاما، لكنهم يرون اليوم أن مشاهد الفوضى في أفغانستان تعبر عن فشل بلدهم.
وتحيي الولايات المتحدة ذكرى مرور عشرين عاما على هجمات الحادي عشر من سبتمبر مع عودة طالبان إلى الحكم في أفغانستان، وكأن شيئا لم يكن في البلد الغارق في الفوضى.
يقول ويليام بي، وهو جندي أميركي كان يبلغ من العمر الـ19 عاما حين كان على متن طائرة عسكرية أميركية متجهة إلى جنوب أفغانستان عام 2001، إنه كان محظوظا في تلك الفترة، لأن بلاده ترد على مخططي تنظيم القاعدة الذين أسقطوا برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، وشعر بالإثارة حينها لكونه من الدفعة الأولى.
قضت ثلاث عمليات نشر عسكرية أخرى في العقد الذي تلا ذلك خلال أطول حرب أميركية على شعور الإثارة لدى بي، فقد انتهى الأمر بالنسبة إليه خلال ليلة في عام 2008 في هلمند بأفغانستان. كان يمسك بيد قناص أميركي أصيب للتو برصاصة في رأسه، بينما فتح أحد المسعفين حلقه للوصول إلى مجرى الهواء. وقال بي “بعد ذلك كان الأمر.. لم أكن أريد سوى إعادة رفاقي. هذا كل ما يهمني. أردت أن أعيدهم إلى المنزل”.
تكلفة الحرب
يتساءل الأميركيون والأفغان عما إذا كانت الحرب تستحق تكلفتها منذ البداية، حيث قُتل أكثر من 3 آلاف جندي من الأميركيين ومن قوات الناتو، وقُتل عشرات الآلاف من الأفغان، وستدفع أجيال من الأميركيين تريليونات الدولارات من الديون. وعادت أفغانستان تحت حكم طالبان في أسبوع من القتال، تماما كما وجدها الأميركيون منذ حوالي عشرين سنة.
كانت هناك السنوات الأولى من الحرب، عندما فكك الأميركيون القاعدة التي يتزعمها أسامة بن لادن في أفغانستان وهزموا حكومة طالبان التي استضافت الشبكة الإرهابية. نجح ذلك.
وكان الدليل واضحا، كما يقول دوغلاس لوت قيصر البيت الأبيض للحرب خلال إدارتي جورج دبليو بوش وباراك أوباما: لم تكن القاعدة قادرة على شن هجوم كبير على الغرب منذ عام 2005. ويقول لوت “لقد قضينا على القاعدة في تلك المنطقة، في أفغانستان وباكستان”.
ولكن المرحلة الثانية من الحرب جاءت بعد ذلك. وتعني مخاوف الولايات المتحدة من عودة طالبان كلما انسحب الأميركيون في نهاية المطاف أن أفراد الخدمة مثل بي استمروا في العودة، مما تسبب في المزيد من الإصابات والقتلى.
ويجادل لوت وآخرون بأن ما كلفه النصف الثاني من الحرب كان الوقت، أي فترة سماح للحكومة الأفغانية وقوات الأمن والمجتمع المدني لمحاولة تأسيس قوة كافية لتدبر أمورهم.
كما تحسّنت نوعية الحياة من بعض النواحي، مع التحديث في ظل الاحتلال الغربي، حتى مع تدفق الملايين من الدولارات التي ضختها الولايات المتحدة في أفغانستان إلى الفساد. وانخفضت معدلات وفيات الرضع بمقدار النصف. وفي 2005 حصل أقل من 1 من كل 4 أفغان على الكهرباء. وبحلول 2019 كان جلهم يتمتعون بهذه الخدمة.
ثم سمح النصف الثاني من الحرب للنساء الأفغانيات، على وجه الخصوص، بالفرص التي حُرمن منها تماما في ظل حكم طالبان الأصولية، بحيث يمكن اليوم لأكثر من فتاة واحدة القراءة والكتابة من كل ثلاث مراهقات (قضين حياتهن كلها تحت حماية القوات الغربية).
لكن المرحلة الثانية وهي الأطول قد فشلت أمام سيطرة طالبان على السلطة، وانسحاب الولايات المتحدة من البلاد دون تأمين تسوية سياسية.
عناء دائم
قال الرئيس الأميركي جو بايدن الشهر الماضي مجيبا على سؤال من أحد المراسلين “المهمة لم تنجز”، وسرعان ما صحح بايدن نفسه، مستحضرا انتصارات السنوات القليلة الأولى من الحرب. وأضاف “المهمة أنجزت لأننا استأصلنا أسامة بن لادن، ولم يعد الإرهاب ينبع من ذلك الجزء من العالم”، وهو نفس الكلام الذي كرره في أول كلمة بعد سيطرة طالبان على السلطة في أفغانستان.
ويقول مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون آسيا الوسطى خلال معظم العقد الأول من الحرب، ريتشارد باوتشر، إن الانتقاد لم يكن إلى حد كبير الصراع نفسه ولكن لأنه استمر لفترة طويلة.
وتابع باوتشر “توسعت أهداف الحرب لمحاولة تشكيل حكومة قادرة على وقف أي هجمات مستقبلية”، لكن الولايات المتحدة دفعت كثيرا من الأرواح والأموال خلال الفترات الطويلة من الحرب غير الحاسمة.
كما يعني إجهاد خوض حربين بعد الحادي عشر من سبتمبر في وقت واحد مع جيش من المتطوعين أي أكثر من نصف 2.8 مليون جندي وامرأة أميركيين نُشروا في أفغانستان أو العراق قد خدموا مرتين أو أكثر، وفقا لمشروع تكاليف الحرب في جامعة براون.
وتقول ليندا بيلمز، وهي محاضرة بارزة في السياسة العامة في جامعة هارفارد، إن عمليات النشر المتكررة للجنود ساهمت في رفع معدلات الإعاقة لدى هؤلاء المحاربين القدامى التي تزيد عن ضعف الإصابات التي لحقت بالمحاربين القدامى في فيتنام.
وتتوقع بيلمز أن تنفق الولايات المتحدة أكثر من تريليوني دولار لرعاية ودعم قدامى المحاربين في أفغانستان والعراق مع تقدمهم في السن، وستبلغ التكاليف ذروتها بعد 30 إلى 40 عاما من الآن.
كل هذا بالإضافة إلى تريليون دولار من تكاليف البنتاغون ووزارة الخارجية في أفغانستان منذ 2001. وتقدر أن تكلف مدفوعات الفائدة الأجيال القادمة من الأميركيين التريليونات من الدولارات أكثر من ذلك لأن الولايات المتحدة اقترضت بدلا من رفع الضرائب لدفع تكاليف حربي أفغانستان والعراق.
وطوال الوقت، جربت سلسلة من القادة الأميركيين استراتيجيات وشعارات جديدة في محاربة تمرد طالبان.
وعلى مر السنين، انتقلت القوات المقاتلة مثل وحدة المشاة البحرية رقم 24 التابعة لبي إلى مناطق ساخنة لمحاربة طالبان وبناء علاقات مع القادة المحليين، غالبا فقط لرؤية المكاسب تُمحى عندما تناوب وحدتهم مرة أخرى. وفي مقاطعة هلمند، التي كانت نقطة تحول بالنسبة إلى بي في 2008، لقي المئات من القوات الأميركية وقوات الناتو الأخرى مصرعهم وهم يقاتلون. وسقطت المدينة على أيدي طالبان في هجومهم الأخير.
انتهت جولات بي في أفغانستان أخيرا في عام 2010، عندما انفجرت عبوة ناسفة على بعد 4 أقدام منه، مما أسفر عن مقتل اثنين من زملائه في الخدمة كانا يقفان معه. وكانت إصابة بي الثالثة في رأسه، وتركته لبعض الوقت غير قادر على المشي.
هل كان الأمر يستحق كل هذا العناء؟ أجاب بي، الذي يعمل الآن في شركة توفر روبوتات مستقلة للتدريب البحري في كامب ليغون بولاية نورث كارولينا، والذي يؤلف كتابا عن الفترة التي قضاها في أفغانستان “أعتقد شخصيا أننا حققنا الأفضل للأشخاص الذين تأثرت حياتهم، فعلناهم بشكل أفضل، وأنهم أفضل حالا بفضلنا، لكنني أيضا لن أقايض حفنة من القرى الأفغانية مقابل واحد من مشاة البحرية”.
صدمة وخيبة أمل

بعد عشر سنوات على عودته من أفغانستان كان مارك سيلفستري على قناعة أن على رفاقه المتبقين المغادرة أيضا، إلا أن الجندي السابق في الجيش الأميركي صعق بالفوضى التي خلفها انسحاب القوات الأجنبية من هذا البلد.
ويقول سيلفستري، وهو رئيس خدمات المحاربين القدامى ويبلغ من العمر 43 عاما، “لقد كانا يومين صعبين للغاية، كنت مع الانسحاب، وأعتقد أن الوقت قد حان بعد أكثر من عشرين عاما، لكن لم أتوقع أبدا أن تكون سرعة ووقاحة طالبان كما هي”.
ويضيف الجندي الأميركي السابق “لم أتوقع أيضا أبدا أنه بعد التدريب والمال أن يلقي الجيش الأفغاني السلاح ويسلم البلاد. كان هذا صادما”.
وبالنسبة إلى قدامى المحاربين الأميركيين فإن استيلاء طالبان على السلطة أدى إلى إحداث الصدمة والغضب والقلق سواء بالنسبة إلى حلفائهم الأفغان الذين تركوا وراءهم ومواطنيهم في الوطن الذين يعانون من النهاية المأساوية للحملة الأميركية.
وتفكك الجيش الأفغاني في غضون أيام قليلة وسقطت كابول دون قتال مع دخول عناصر طالبان المدينة وفرار الرئيس الأفغاني أشرف غني من البلاد، حيث أثارت المشاهد البائسة والمأساوية في مطار كابول حالة من اليأس.
ودافع الرئيس الأميركي عن قراره الانسحاب من أفغانستان. ويقول مسؤول أميركي إن استطلاعات الرأي أظهرت أن معظم الأميركيين يؤيدون الانسحاب مما يجعل بايدن مرتاحا لقراره.
وأكد استطلاع أجرته مؤسسة إبسوس في أبريل الماضي أن غالبية الأميركيين يؤيدون بايدن. ولم يتضح بعد كيف سينظر الأميركيون إلى قرار بايدن بعد عرض مشاهد تلفزيونية لطائرات هليكوبتر عسكرية أميركية وهي تخلي السفارة الأميركية والأفغان يحتشدون في المطار أملا في المغادرة، بالإضافة إلى أن تلك المشاهد المأساوية رسمت صورة سوداوية للوضع الأفغاني.