أصدقائي الأرمن.. "امسير" (محبتي)

كان لي شرف التعرف عن قرب إلى أصدقاء أرمن في كل من سوريا ولبنان، فكنت – أنا وهم – مثل أقليتين تأبيان الانقراض.. مع فارق بسيط، وهو أني، عكسهم، متسرّع وأهوج أحيانا، لم أنجح في إتقان مهنة يدوية والإبداع فيها كما يفعل الأرمن. لم أتحلّ بالصبر والمثابرة، ولا بالجاذبية التي كان عليها الفنان القصير العملاق شارل أزنافور.
لعبت الشطرنج فلم أصل إلى شهرة ديكران بيدروسيان، حاولت تعلم العزف فأحبط آرام خاتشادوريان من عزيمتي، وكتبت المسرح والقصة القصيرة فلم ألامس عبقرية وليام سارويان.
أما عن ثروة الملياردير الأرمني – الأميركي كرك كركوريان، وحتى دبلوماسية الروسي سيرغي كالانتاريان لافروف فأمران بعيدا المنال.
يستبق أصدقائي الأرمن أحيانا جيرانهم العرب فيتناولون أنفسهم بالتنكيت حول طريقتهم في التحدث باللغة العربية، إذ غالبا ما يعوضون ضمير المتكلم بالمفرد الغائب، وكأن الأمر يتعلق لاشعوريا بـ”إنكار الذات”، لكن غاب عن الكثيرين أن صاحب أول صحيفة عربية تصدر في إسطنبول سنة 1854 (مرآة الأحوال) كان أرمنيا من حلب اسمه رزق الله حسون، وأن مجموعة من نجوم الإعلام السوري كانوا من الأرمن مثل ميشيل قوشقجي وابنته ندى قوشقجي، وكذلك مهران يوسف الذي كان بالأصل أستاذا للغة العربية.
أما في الوسط الفني والثقافي السوري، فكانت لي صداقات دافئة مع أسماء قد يظنها الكثير غير أرمنية، وذلك لالتصاقها الشديد بثقافة المنطقة، مثل الممثل سلوم حداد، الذي أبدع في تجسيد شخصيات تاريخية كالزير سالم ونزار قباني.
هذا بالإضافة إلى الفنانة المتميزة لينا شماميان، والناقد الموسيقي فاهيه تمرجيان، وكذلك الصوت الساحر لللراحلة ربى الجمال، وشادي جميل وقبله سمير حلمي. وكان الثلاثة الأخيرون قد استبدلوا أسماءهم الأرمنية بأخرى عربية كعلامة للمزيد من الاندماج والانصهار في النسيج الثقافي للمنطقة.
أما أستاذي وصديقي المخرج المسرحي مانويل جيجي، فقد تعلمت منه الكثير.. حتى طريقته في نسيان أسماء المقربين منه، والتي غدت موضوعا لرواية النوادر والطرائف.
تعلمت من هؤلاء بهجة الذهاب نحو الآخر، وتقبيل العالم بأكثر من فم، رغم الجراح التي بإمكانها أن تندمل، ولكن بعد جرأة الاعتراف وسماحة الاعتذار كما فعل المؤرخ التركي تانير أكشام، الذي قلّده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وسام الشجاعة لتأليفه كتابا يُثبت صحة ما ورد في برقيات عثمانية أمرت بتنفيذ الإبادة الأرمنية أثناء الحرب العالمية الأولى.
اليوم وبعد ما يزيد عن القرن و6 سنوات من تلك المجزرة الفظيعة، هاتفت صديقي الذي كنت أظنه نسّاء مانويل جيجي في ذكرى إحياء إبادة مليون ونصف أرمني، فصحح معلوماتي بقوله إن الشهيد الذي يحمل رقم 1.500.001 هو هرانت دينك.