"أشياء صغيرة".. جرائم متسلسلة يغرق في دوامتها شرطيان

ملاحقة الجريمة وفك ألغازها، القاتل المتخفي شديد الذكاء والمتمرس، المحقق، الأدلة، كلها تجتمع كمواصفات للعديد من الأفلام لتكوّن نوعا سينمائيا محددا، حتى تكاد تقول إنه لا حاجة إلى المزيد منها بسبب كثرة أفلام الجريمة والأفلام البوليسية، وإذا الواقع يضخ المزيد من قصص الجريمة تدفع بصنّاع السينما إلى اقتفاء أثرها وتحويل تلك القصص الواقعية أو المستقاة من الواقع إلى قصص سينمائية.
في المقابل يحمل هذا النوع من أفلام الجريمة والإثارة أو الأفلام البوليسية الكثير من التأثير والجذب لجمهور عريض يريد العدالة والوصول إلى الحقيقة، في تفاعل وجداني مبني على متانة الحبكة والبناء الدرامي وعناصر التشويق وأداء الشخصيات.
في فيلم “أشياء صغيرة” نجد أنفسنا في مطلع التسعينات مع قصة سينمائية كان من المفترض أن تظهر آنذاك على الشاشة، لكنها تنقلت بين عدة مخرجين من بينهم كلينت إيستوود وستيفن سبيلبيرغ حتى انتهى بها المطاف إلى المخرج جون لي هانكوك، بأحداثها القريبة جدا من الواقع.
في مشهد ليلي لفتاة تقود سيارتها في شارع خال وهي منسجمة مع صوت الغناء، تلاحقها وسط الظلام سيارة مجهولة وينتهي بها المطاف إلى أن تحاول الهرب راكضة وسط الأشجار، لينغلق المشهد عند تلك اللحظة من الملاحقة بين الفتاة والمجهول.
هذه التوطئة كانت ضرورية لشدّ المشاهد ولكي ننتقل إلى دينزل واشنطن (في دور المحقق جو ديكون) في كاليفورنيا، وهو ومن معه من عناصر أجهزة الشرطة يواجهون قاتلا متسلسلا، أجهز على عدد من الفتيات من دون أن يتم القبض عليه، ليتطلب الأمر عودة المحقق ديكون إلى مركز الأمن السابق الذي كان يعمل فيه في لوس أنجلس لغرض جلب أدلة جديدة.
هناك سوف يعود إلى عالمه السابق وزملائه في العمل بعدما كان قد اُبعد عن ذلك المركز الأمني لأسباب نجهلها، وليحل محله محقق شاب وسيم هو جيم باكستر (الممثل رامي مالك)، وهنا سوف يلتقي المحققان، باكستر الذي جلس على كرسي ديكون وهو يسمع قصصا عن كفاءته وفي المقابل ديكون الذي يحدثه زملاؤه عن ذلك المحقق الشاب الناجح.
هنا يتأسس الإطار السردي والدرامي الذي سوف تسير بموجبه الأحداث، وها نحن مع المحققين وقد تكاتفا من أجل الوصول إلى حقيقة القاتل المتسلسل، إطار سردي بدا فيه باكستر أقل كفاءة أمام حنكة ديكون ومناوراته العجيبة، وحتى حياته المقتصدة وهو الذي يعيش ببيت ناء في منطقة مقفرة.
خلال مدة وجيزة يقترب ديكون من الوصول إلى مشتبه به غير مؤكد، لكن ديكون يزجه في دائرة الشكوك بكل حنكة ودراية ولسوف نمضي في سلسلة من الكر والفر والاقتفاء تنتهي باستدراج القاتل المشتبه به إلى المحقق باكستر في مواجهة تنتهي بمقتل المشتبه به.
تمرّ أحداث الفيلم وهي محمّلة بقدر من التلميحات وبالماضي المحاط بأسئلة عمّا يتعلق بديكون، فهو يراوح مكانه بلا ترقيات منذ سنوات طويلة من دون أن نعرف السبب، زملاؤه السابقون في لوس أنجلس يحذّرون من العمل معه، وتلاحقه استذكارات تتعلق بفتيات مقتولات.
هذه الألغاز في موازاة قضية الاشتباه بالقاتل المتسلسل تتراكم وتثقل مسار الأحداث وخلال ذلك كنا ننتظر ابتكارات المحقق الشاب باكستر، لكننا في الحقيقة وجدنا أمامنا شابا منقادا إلى ذلك الثعلب الماكر المتمرس ديكون، حتى يبدو هزيلا أمامه إلى درجة أن يستدرجه مشتبه به بكل سذاجة ويقوم بعمل العديد من الحفر بطريقة عشوائية.
لا شك أن إنتاجا مدعوما من وارنز بروذرز سوف يكون له ثقله على جميع المستويات، وحيث من المتوقع أن نمضي بعيدا في المفاجآت وبثّ الحبكات الثانوية وقطع الأنفاس، لكننا لن نجد شيئا كثيرا من ذلك وبقي الإيقاع كما هو منذ البداية وهي إشكالية واضحة في مسار هذا الفيلم.
وأما على صعيد الفكرة والحبكة والبناء الدرامي فيبدو أن المخرج أراد أن يقدم نوعا مختلفا من أفلام الجريمة، نوعا يطرح الأسئلة أكثر ممّا يجيب عليها ويبث ألغازا هنا وهناك تجعل الشكوك تحوم حول أطراف عدة، لكن اقتراب ديكون هامسا وهو يقول لباكستر “أنت ولدي” ثم إكمال دفن الضحية في جريمة قتل مكتملة الأركان، يثيران علامات استفهام.
في الحد الأدنى بدأت الشبهات تحوم حول باكستر وكأنه أصيب بصدمة لم يخرج منها بعد قيامه بضرب ضحية كان الهدف إنقاذها من خاطفين أو مغتصب ما وسط الظلام، بينما يقوم باكستر بإطلاق رصاصة تستقر في صدرها وتقتلها، ولنكتشف سر نفور زملائه السابقين منه إذ كانوا قد تستّروا عليه وحتى الطبيبة الشرعية سوف تدّعي أن الفتاة الضحية قد أصيبت بطعنات سكاكين وليس برصاصة باكستر.
وإذا اختتمنا ذلك بما تقتضيه سينما التحري فلسوف نكون إزاء نمط مختلف من دراما الجريمة ربما يكون المحقق هو القاتل أو لا يكون، لكنه محقق صعب وسوف يغطي على جيم باكستر ويساعده في طمر المشتبه به في أرض مقفرة وبذلك أصبحا شريكين في الجريمة، ولتأكيد ذلك يذكره بأمرين الأول عدم الغرق في الأشياء الصغيرة والثاني أن لا أحد في صفات ملاك.