أسامة هيكل صحافي متمرس في كسب ثقة الجيش

القاهرة - علاقة الصحافة بالقوات المسلحة بدأت في مصر، كما تقول بعض الكتابات، قبل 5 آلاف عام تقريبا وتحديدا في عصر الأسرة السادسة عندما اكتشف الفرعون بيبي السادس قائدا في جيشه يهوى الكتابة يدعى ووني، فأمره بتسجيل انتصاراته في نقوش خالدة.
على مدى حقبة هائلة من التاريخ ظهر الكثير ممّن أصطلح على تسميتهم بالمحررين العسكريين، وهم مدنيون يكلفون من قبل الصحف التي يعملون فيها بتغطية أنشطة القوات المسلحة ونشرها.
ربما كان الراحل محمد حسنين هيكل أبرز صحافي أفادته علاقته بقيادات في الجيش ليحقق صعودا خرافيا في عصر الراحل جمال عبدالناصر، الذي التقى الصحافي اللامع خلال حرب 1948 وتوطدت علاقتهما خلال ما يعرف بحصار الفلوجة.
بين مئات الأسماء التي تناوبت على تغطية أنشطة الجيش المصري بعد ذلك يبرز اسم هيكل آخر استطاع بحنكة شديدة أن يجمع الكثير من المتناقضات، مستفيدا من الظروف التي هيأت له أجواء مواتية للنجاح.
أسامة هيكل أول وزير إعلام بعد ثورة يناير 2011 ورئيس مدينة الإنتاج الإعلامي، والنائب البرلماني الحالي، الذي يستعد كما أفادت تسريبات كثيرة لتولّي قيادة تحالف “دعم مصر” في مجلس النواب خلفا للراحل سامح سيف اليزل.
إذا كان هيكل الكبير قد نجح في الانفراد بثقة عبدالناصر ليبعد من حوله نجوما وأساتذة كانوا أكثر لمعانا منه، مثل الأخوين مصطفى وعلي أمين وأحمد أبو الفتح وغيرهم، فإن هيكل الصغير استطاع الاحتفاظ بعلاقته القوية مع المؤسسة العسكرية منذ أن بدأ في تغطية نشاطها كمحرر عسكري عام 1991 وحتى بعد إخفاقه الكبير كوزير للإعلام الذي كاد يتسبب في اندلاع حرب طائفية.
معادلات متناقضة
يحسب لأسامة هيكل، خرّيج كلية العلوم، قدرته المدهشة على إدارة المعادلات المتناقضة في حياته المهنية ليقدّم خلطة صحافية وسياسية قد لا ترضي البعض، لكنها في نفس الوقت لا تثير غضب الأغلبية. فيصعب أن يكتسب لنفسه أعداء بالمجان.
أول ما يثير في شخصيته نجاحُه في كسب ثقة المؤسسة العسكرية في فترة عمله كمحرر عسكري، رغم أنه كان يغطي أخبارها لصالح جريدة حزب الوفد الليبرالي، أبرز أحزاب المعارضة في العقدين الأخيرين من القرن الماضي.
لم ينافسه في هذه العلاقة المتميزة سوى ياسر رزق رئيس مجلس إدارة أخبار اليوم. لكن ما يحسب لهيكل أنه بنى علاقته مع الجيش بنفسه، بعكس رزق الذي “ورث” وظيفة المحرر العسكري من والده الصحافي الراحل فتحي رزق. كما أن الأخير يعمل في صحيفة قومية مقربة من النظام وهو ما لم يتمتع به هيكل.
ثقة القوات المسلحة به تحمي هيكل حتى اللحظة وتجعله يفلت من اتهامات خطيرة وجهها له نشطاء وجهات قبطية عقب ما يعرف بمذبحة ماسبيرو في أكتوبر من عام 2011 والتي قتل فيها 25 متظاهرا، بينهم أقباط كثيرون، أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون وسط القاهرة
خلال فترة وجيزة من بدء عمله تمكّن هيكل الصغير من بناء علاقة ثقة متينة مع اللواء سمير فرج رئيس الشؤون المعنوية في ذلك الوقت، والرجل القوي في المؤسسة العسكرية لعدة اعتبارات، منها قربه الشديد من وزير الدفاع وقتها المشير محمد حسين طنطاوي.
واقعة مهمة حدثت في منتصف تسعينات القرن العشرين تكشف المدى الذي بلغته ثقة اللواء سمير فرج بهيكل، ملخصها أنه تم ترشيحه مع ياسر رزق رئيس مجلس إدارة “أخبار اليوم” حاليا للحصول على درجة الزمالة في الاستراتيجية والأمن القومي من أكاديمية ناصر العسكرية.
وزير الدفاع اعترض على هيكل لأنه يعمل في صحيفة معارضة وطلب اختيار أحد محرري الصحف القومية. لكن اللواء سمير فرج نجح في إقناع المشير بالموافقة على استثناء هيكل تقديرا لما أبداه من تعاون منذ أن بدأ العمل في تغطية لأنشطة الجيش.
العلاقة القويّة استمرت في ما بعد وتنقلت مع انتقالات العسكري الذي كان مسؤولا عن الإعلام العسكري. ففي عام 2004 اختار فرج عندما كان رئيسا لدار الأوبرا المصرية أسامة هيكل ليتولّى الإشراف على الأنشطة الثقافية بالدار.
وحتى اختيار هيكل وزيرا للإعلام في حكومة عصام شرف التي كانت الأولى بعد ثورة 25 يناير أرجعه البعض لعلاقته القوية بسمير فرج، وهو ما نفاه أسامة نفسه وقال إن شرف هو من عرض عليه المنصب الوزاري.
جندي في الإعلام
وظيفة المحرر العسكري لم تكن موجودة بالمعنى الحالي إلا بعد هزيمة يونيو 1967 حينما طلب قادة الجيش من الصحف القومية ترشيح صحافيين لزيارة الجنود في معسكراتهم والكتابة عنهم وعن استعدادات الجيش.
كان ذلك ضمن حملة بدأتها القوات المسلحة لاستعادة ثقة الشعب المصري بعدما اهتزت بعنف عقب النكسة، ثم ما تلاها من تمرد المشير عبدالحكيم عامر ثم وفاته التي لا زالت لغزا بين من يجزم أنها انتحار ومن يلمّح إلى كونها جريمة قتل.
ظهر نجم عدد من الصحافيين الشباب وقتها مثل جمال الغيطاني وصلاح قبضايا ومحمد عبدالمنعم وعبده مباشر وغيرهم، بعدما تألقوا في نقل صور حية من داخل معسكرات الجنود وساهموا بشكل فعال في إعادة اللحمة بين الجيش والشعب.
لكن هذه التجربة رشحت عنها حالة ارتباط نفسي وعاطفي واضحة نشأت لدى أغلب المحررين العسكريين بالقوات المسلحة وكل من ينتمي لها أو يرتبط بها، وهي حالة انتقلت بالوراثة لكلّ من تولّوا تغطية أنشطة الجيش لاحقا.
|
بمرور الوقت تبلورت الحالة أكثر وأكثر، خاصة مع انتشار ظاهرة مشابهة بين الصحافيين الذين يتولّون تغطية أنشطة وزارة الداخلية، لدرجة بات من السهل معها تمييز أيّ صحافي يغطي أنشطة أيّ من الجهتين.
ثم تفاقمت الحالة بعد أن صار القرب من إحدى المؤسستين منفذا للترقي والحصول على مناصب عليا، سواء داخل الجريدة أو خارجها، كما تحوّل الصحافي الذي يملك علاقة مع الجيش أو الشرطة إلى أن يصبح مهابا في عمله وربما حتى بين أصدقائه.
كان المقابل لهذا الوضع المميز حالة من التماهي العفوي أو العمدي مع مواقف المؤسستين ولو على حساب أبناء المهنة، مثلما فعل أسامة هيكل نفسه في الأزمة الأخيرة بين نقابة الصحافيين ووزارة الداخلية حينما خذلت مواقفه زملاءه الأعضاء في النقابة وانحاز لموقف الشرطة.
ولاء متبادل
إلى جانب قدرته الواضحة على إدارة المتناقضات في حياته المهنية للإبقاء على علاقته المتميزة مع القوات المسلحة وقادتها، استفاد هيكل من ثقافة الولاء المتبادل التي تسود بين قادة القوات المسلحة في مصر مثلما في كثير من البلدان.
ونتيجة لطبيعة مهامهم التي تغلفها السرية في أغلب الأحيان يكون من النادر جدا أن ينجح شخص ما في كسب ثقة قادة الجيش، حيث يحتاج للمرور باختبارات عديدة للتأكد التام من ولائه.
لكن بمجرد أن يحظى بالثقة يكون من الصعب أن يفقدها مهما حدث، وقد ذاق هيكل حلاوة هذا الأمر مثلما ذاقه رفيق رحلته في الصحافة العسكرية ياسر رزق.
رزق تعرضت علاقته بالقوات المسلحة إلى اختبار عنيف خلال رئاسته لتحرير جريدة “المصري اليوم” المستقلة، حينما أجرى حوارا مع وزير الدفاع وقتها عبدالفتاح السيسي، وتسربت عن تسجيلات الحوار تصريحات لم تكن معدّة للنشر لتتلقفها مواقع وصفحات إخوانية وتتخذها ذريعة للهجوم الشديد على الوزير (الرئيس).
لكن كان من اللافت في تطورات الأزمة التي لقيت صدى إعلاميا كبيرا وقتها أن المؤسسة العسكرية لم توجّه ولو نظرة شك لرزق، وغالبا لم تلمه على ما حدث، ولو على إهماله في إعطاء شرائط التسجيل لأشخاص غير موثوق بهم.
استفاد هيكل من ثقة القوات المسلحة به، ليفلت من اتهامات خطيرة وجهها له نشطاء وجهات قبطية عقب ما يعرف بمذبحة ماسبيرو في أكتوبر من عام 2011 التي قتل فيها 25 متظاهرا، بينهم أقباط كثيرون، أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون بوسط القاهرة.
ورغم أن المجلس العسكري الحاكم في ذلك الوقت اضطر للتضحية بهيكل وإقالته من منصبه كوزير للإعلام لتهدئة الثائرين بعد التغطية المنحازة للتلفزيون الحكومي لتلك الأحداث والتي بلغت أحيانا حد التحريض على المتظاهرين، فإن العلاقة بين قادة المجلس والوزير المقال بقيت قوية استنادا لمبدأ الولاء المتبادل، فلم يتحدث هيكل بكلمة واحدة تحمل إساءة للمجلس العسكري أو قادته ولو من باب الدفاع عن نفسه ضد الاتهامات التي وجهت له.
هيكل الصغير استطاع الاحتفاظ بعلاقته القوية مع المؤسسة العسكرية منذ أن بدأ في تغطية نشاطها كمحرر عسكري عام 1991 وحتى بعد إخفاقه الكبير كوزير للإعلام
حتى في الكتاب الذي ألّفه ليحكي فيه تجربته الوزارية القصيرة وحمل عنوان “150 يوما في تاريخ مصر- حقيقة في زمن الكذب” الذي حمل انتقادات مبطنة وظاهرة لكل الشخصيات السياسية في مصر لم يتطرق هيكل بكلمة انتقاد واحدة للمجلس العسكري.
على العكس، من ذلك أصر في كل المناسبات على الإشادة بالفترة التي تولّى فيها المشير طنطاوي الحكم باعتباره رئيسا للمجلس العسكري، وأكد أكثر من مرة أنه كان يرغب في تسليم الحكم في أسرع وقت لولا الصراعات الحزبية.
في المقابل، لم تحرّك ضده ولو دعوى قضائية واحدة لإثبات الاتهامات التي كيلت له، في وقت كانت الدعاوى القضائية فيه من الكثرة، التي جعلت البعض يتهكم ويقول “يمكن رصد أعداد الذين لم يرفعوا دعاوى من بين التسعين مليون مصري”.
تعويض هيكل عن إبعاده من وزارة الإعلام لم يتأخر كثيرا، حيث تقرر تعيينه رئيسا لمدينة الإنتاج الإعلامي عام 2014، ثم ترشيحه على قوائم تحالف “في حب مصر”، الذي تحول لاحقا إلى “دعم مصر” في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
كان من الواضح أن الهدف هو تكريم المحرر العسكري السابق، باعتبار أنه دخل في قوائم التحالف القريب من النظام والذي كان يشغل منصب منسقه العام النائب والخبير الاستراتيجي الراحل سامح سيف اليزل المحسوب على القوات المسلحة.
أبرز الملاحظات التي يبديها المعارضون للصعود الصاروخي لهيكل أنه لم يثبت نجاحا في أيّ منصب تولاّه، فإخفاقه خلال توليه وزارة الإعلام كاد يتسبب في حرب طائفية لم تشهدها مصر من قبل على كثرة التوترات بين المسلمين والأقباط في فترات سابقة.
كما أنه لم يترك بصمة واضحة على مدينة الإنتاج منذ تولى رئاستها، وقبل هذا وذاك لم يقدم ما يثبت مهاراته الصحافية الفذة حينما تولّى رئاسة تحرير جريدة الوفد الليبرالية المعارضة لعدة شهور خلال ثورة يناير 2011.
إلى جانب كل هذا فهو كاتب صحافي لا يملك دقة ومعلومات محمد حسنين هيكل ولا رشاقة السرد التي كان يمتلكها مصطفى أمين، مثلما لا يتمتع بمهنية ياسر رزق ولا حرفية إبراهيم عيسى وهما من نفس جيله الصحافي تقريبا. لكن هيكل الصغير يتميز بقدرته الهائلة على الاحتفاظ بوجهه الخالي من التعبير وعدم الانجرار وراء أفخاخ الغضب والتصريحات غير المحسوبة أو الدخول في خصومات مجانية، وهي صفات يصعب توافرها في صحافي.
لهذا لم يكن مفاجئا لكثيرين ما تردّد مؤخرا عن اقترابه من تولي منصب سيف اليزل ليكون منسقا عاما لتحالف “دعم مصر”، كذلك تردد اسمه كمرشح بارز لرئاسة المجلس الوطني للإعلام المقرر تشكيله بعد إقرار قانون الصحافة والإعلام في الفترة الماضية.
الإخوة الأعداء
عقبة وحيدة تقف أمام ترشح هيكل، المولود في عام 1965، لرئاسة المجلس الوطني للإعلام تتمثل في سوء علاقته المتزايد بأبناء مهنته، في مفارقة غريبة وقد تكون كاشفة لانحيازاته منذ ثورة 25 يناير.
قبل الثورة بشهر واحد نجح هيكل في الحصول على منصب رئيس تحرير العدد اليومي من جريدة “الوفد” بعد أن انتخبه زملاؤه في الجريدة للمنصب في أول انتخابات لرئاسة تحرير جريدة تجري في تاريخ الصحافة المصرية.
لكن بعد أقل من ستة أشهر وتحديدا بعد توليه وزارة الإعلام شهدت العلاقة تحولا دراماتيكيا لافتا، فسّرها هو في تصريح تلفزيوني أن من بين زملائه من شعروا بالغيرة منه، وبدأوا بمهاجمته لمجرد أنه كان محررا عسكريا رغم أن ذلك لا يعيبه.
تطورت العلاقة للأسوأ لتبلغ حد هتاف بعض الصحافيين ضده حينما ذهب إلى مبنى النقابة قبل ابتعــاده عن وزارة الإعلام للإدلاء بصوته في انتخابــات مجلسها، ووقتهــا طارده بعضهم وهم يرددون “برّه برّه” تعبيرا عن أنه غير مرغوب فيه داخل النقابة.
ثم وصل السوء إلى الذروة في الأزمة الأخيرة بين النقابة ووزارة الداخلية التي تدخّل فيها البرلمان من خلال لجنة الثقافة والإعلام التي يرأسها هيكل نفسه، حيث اعتبر الكثير من الصحافيين أن آراءه خذلت أبناء مهنته. فقد ألمح النائب البرلماني إلى إمكانية فرض الحراسة القضائية على النقابة في حال لم تتراجع عن تصعيدها ضد وزارة الداخلية، ثم رفض في تصريحات مختلفة فكرة إرغام وزير الداخلية على الاعتذار عن واقعة اقتحام الشرطة لمبنى النقابة.