أساطير المحللين العسكريين الإستراتيجيين

فارت ثم بارت مهنة “محلل عسكري إستراتيجي” هذه الأيام. مع حرب غزة وامتدادها للبنان، امتلأت الفضائيات بالمحللين العسكريين. هي مهنة مثل أيّ مهنة في العالم. لكنها أسوة بالمهن في عالمنا العربي فهي تخضع لمعايير مختلفة لا ترتبط بالضرورة بالمهنية.
المحلل العسكري الحالي في الفضائيات هو أشبه بوصفة أيديولوجية مع بعض المفردات العسكرية والإستراتيجية. من حيث المبدأ فإن ما يجري على الأرض أو من الجو أو في الفضاء الإلكتروني أو السيبراني هو عملية ميدانية يفترض بالمحلل توصيفها. ولو أضفنا مفردة “إستراتيجي” إلى توصيفاته، فإنه سيقدم لنا قراءة محتملة لسير العمليات في المستقبل القريب. لكن ما شهدناه كان شيئا مختلفا.
لا شك أن كثيرا من رؤى هؤلاء المحللين لا تتطابق إلا مع ما توحيه لهم توجهات القنوات. نفس تلك القنوات تجد الكثير من الصعوبة بمطابقة المشاهد التي تبثّها، سواء تلك القادمة من مراسليها أو من مراسلي وكالات الأنباء العالمية، مع ما يظهر على الشاشة.
لا نريد أن نقول إن التحليل العسكري الذي شهدناه على مدى عام وأكثر في الحربين ملفّق. هو، في أفضل الأحوال، نسخة “أماني” لما تريده القناة أو من يقف من خلفها في أن يحدث على الأرض. فلا تفسير لصور أكوام الدمار التي خلفها القصف الإجرامي لإسرائيل إذا كان الغرض منها القول إن قوات حماس أو قوات حزب الله تكسب على الأرض. تكرار صورة ضرب دبابة ميركافا بالسرعة البصرية المختلفة والتلوين والزوايا، لا يسمح للمحلل العسكري للفضائية أن يقول إن قوات المقاومة قد دمرت ألوية كاملة للإسرائيليين، وإن ما يحدث ما هو إلا عملية إخفاء للحقيقة. ونفس الشيء يقال عن مواقع تساقط المقذوفات والصواريخ من جنوب لبنان تجاه إسرائيل، إذ شتان بين دمار شامل تنزله القنابل الإسرائيلية، وبين ما تتسبب به تلك الصواريخ والمقذوفات.
ثمة إشكالية حقيقية في هذه المهنة كان من الوارد تجاوزها في حرب تنقل على الهواء وتبدو حقائقها – بغض النظر عن موقفنا منها أو الموقف الأخلاقي الذي يؤيدها أو ينتقدها – سهلة وفي متناول اليد ولا تحتاج إلى تفسيرات أو تحليلات ميتافيزيقية تتجاوز العقل والمنطق.
هذه المهنة تتم الإساءة إليها يوميا الآن ليس في النقل الحي للحدث العسكري على جبهتي غزة ولبنان، بل حتى في قراءة أحداث مر عليها عشرون عاما وأكثر مثل حرب غزو العراق عام 2003. قبل أسابيع، انتشرت قراءات لمذكرات قادة عسكريين عراقيين ممن شاركوا في الحرب، وقامت الفضائيات بتنظيم برامج لقراءة هذا الحدث المزلزل، الذي غيّر المنطقة ولا يزال، من خلال هذه الشهادات/المذكرات. أتقن البعض – وللغرابة ممن لا يحملون خليات عسكرية – قراءة المذكرات، بينما وصل الأمر لدى بعض “المحللين العسكريين الإستراتيجيين” المحترفين ممن يفترض أنهم كانوا ضباطا في ساحة القتال أمام القوات الأميركية المهاجمة في معرفة واحدة من أبسط حقائق المعركة على الأرض، مثل أن القوات المهاجمة غرب الفرات نحو بغداد تشكلت من فيلق من الجيش الأميركي، بينما عبرت قوات أخرى هي فيلق المارينز من جسر الناصرية إلى المنطقة المحصورة بين نهري دجلة والفرات واندفعت صوب بغداد. لا أعرف – ولا أريد أن أجزم – إن كان هؤلاء المحللون العسكريون يعرفون أصلا الفرق بين فرق الجيش وفرق المارينز في القوات المسلحة الأميركية. لا أريد التعليق على مستوى التحليل طالما “أول القصيدة كفر” كما يقال.
لم يتغير الكثير من تسطير الأساطير عند تقديم التحليل العسكري وبيع الأوهام. ما شهدناه ونشهده هذه الأيام هو فصل آخر لرفض التعلم من التجربة. ها هي حرب لبنان تبرد، وعلينا الإنصات إلى ما تبقى من تحليل عسكري لا يمت للواقع بصلة طالما استمرت حرب غزة.