أسئلة كثيرة لتميم البرغوثي لا نبحث عن إجابة لها

أثار مقطع فيديو متداول لقراءة شعرية قدمها الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي ضمن فعاليات معرض بغداد الدولي للكتاب، موجة انتقادات واسعة، نظرا إلى تهجمه على بني أمية ومن خلفهم السنّة وتمجيده للحسين ومن خلفه الشيعة، فيما يعتبر توجها طائفيا في بلد عانى ويلات هذا المرض الذي نخر المجتمع.
الأمسيات الشعرية مخاتلة جدا للشاعر وللجمهور، وقلت جمهورا بدل قراء، لأن التلقي في هذه الفعاليات لا يكون قراءة وإنما سماعا ومشاهدة، وبالتالي تتراجع رصانة القراءة في هدوء إلى صالح الانفعال وهو ما يجبر الشاعر على الأداء في إلقائه وتأديته لقصيدته لتحقيق التفاعل المرجو.
ولا يتوقف الأمر عند الحضور الأدائي، اختيار النصوص التي سيقرؤها الشاعر يتغير كليا في الأمسيات الشعرية وفق مكان الحدث ونوعية الجمهور الذي سيحضر، وغالبا يختار الشعراء قصائد عمودية أو لها إيقاع تفعيلي واضح لتسهيل التفاعل النغمي الصوتي معها من قبل الجمهور وبالتالي نجاح الشاعر مربوط بمدى تأثيره.
خطر الطائفية
ربما كان الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي تحت طائلة تلك المسألة الأدائية في قراءته الشعرية الأخيرة ضمن فعاليات معرض بغداد الدولي للكتاب، التي تضر بالشعر أكثر مما تنفعه وهذه قضية أخرى، وهو الشاعر الذي امتاز بأدائه القوي منذ بداية شهرته عبر برنامج أمير الشعراء في موسمه الأول عام 2007، حيث نال المركز الخامس في الدورة التأسيسية للبرنامج الذي أنتجته حينها لجنة إدارة المهرجانات والبرامج الثقافية والتراثية بإمارة أبوظبي.
كأي شاعر حاول الشاعر، الذي يملك قاعدة جماهيرية محترمة في شتى البلدان العربية، أن يستميل الجمهور العراقي بنصوصه وأدائه، ولكن قصيدته التي جاء فيها: “إن الحسين عراق حلّ في جسدي/ إن العراق حسين آخر الأبد/ ودهره أموي ما له شرف”، أثارت موجة انتقادات واسعة ضد الشاعر.
لا ترقى القصيدة المكتوبة إلى مستوى نصوص البرغوثي المميزة التي اشتبك فيها مع الواقع السياسي والاجتماعي والتاريخي العربي، انطلاقا من قضيته الأم فلسطين، إلى قضايا أخرى مثل غزو العراق واستعادة مآثر من التاريخ العربي ورموزه، وبالتالي تمكن من تقديم خطاب شعري متوازن، رغم ما فيه من شحن عاطفي، خطاب عهدناه ينتصر للشعوب العربية وتاريخها ضد كل تشويه وطمس.
المفاجئ كان ما قاله الشاعر والذي يصب في خانة الطائفية المرض العضال الذي عانى ويعاني منه العراق
لكن المفاجئ كان ما قاله الشاعر والذي يصب دون أدنى شك في خانة الطائفية، المرض العضال الذي عانى ويعاني منه العراق إلى اليوم، شأنه شأن الكثير من البلدان العربية الأخرى، التي مثلت مسألة الطائفية فيها عائقا كبيرا ضد التطوير والتجديد وخلق تماسك اجتماعي ونظم قوية تواجه التحديات.
الطائفية ليست مجرد كلمة أو هي نزعة أدبية أو تقليعة من التقليعات، إنها جريمة بشعة، الآلاف راحوا ضحيتها وخاصة في العراق، سنوات طويلة من القتل والسحل والملاحقة كانت تحت راية الطائفية، تلك الكلمة التي تحولت إلى مفتاح الجحيم المتاح أمام العراقيين ودمرت البلاد ببشرها وحجارتها وماضيها ومستقبلها، ألا تكفي مشاهد القتل والحرائق والرؤوس المقطوعة والدم المسفوك في الشوارع وأشلاء الانفجارات والواقع المحاصر بالخوف والريبة لإقناعنا بأن الطائفية جريمة.
وإن كان العراق يشفى تدريجيا ولو ببطء من وقع الطائفية المقيت، فها هو الشاعر الفلسطيني يعيدها إلينا في قصيدة منبرية تختصر العراق في الحسين، وتشتم السنة ممثلين في بني أمية، بشكل صريح. إنها عودة إلى المربع الأول، مربع الفتنة الكبرى الملتهبة ناره منذ قرابة 14 قرنا، وكلما انطفأت جاء أناس ليشعلوها مجددا، لضمان تشتيت هذه المجتمعات وترسيخ ظاهرة الطائفية وعدم قبول الاختلاف وهلم جرا من مصائب مازال النواح مسموعا من آثارها المميتة.
أسأل مالذي دفع شاعرا مُجيدا وملتزما سياسيا وأخلاقيا للانزلاق في مستنقع الطائفية؟ هل كان يريد استدراج الجمهور؟ ومالذي أدراه أن الجمهور كله من الشيعة؟ أو مالذي أدراه أن الشيعة أصلا مازالوا معنيين بشتم بني أمية والسنة؟ ألا يعرف كم اكتوى العراقيون بسنتهم وبشيعتهم من الصراعات الطائفية المريرة؟ هل يستعيد الشاعر التاريخ لإثارة التعصب وتدمير الحاضر كما يفعل الجهاديون؟ هل هناك قراءة واحدة للتاريخ؟
أسئلة كثيرة للأمانة لا تحتاج إلى إجابات من الشاعر أو غيره، بقدر ما تحتاج إلى اليقظة والانتباه من المزالق. الشعراء في صف الخطابة الأول ونحن نعلم سلطة الكلمة وتأثيرها، كما أنهم كغيرهم من المشتغلين في الفن والإبداع والثقافة منوط بهم اليوم التجميع والتنوير لا التفريق وبث الصراعات القاتلة.
خطأ فظيع
الطائفية ليست مجرد كلمة أو هي نزعة أدبية أو تقليعة من التقليعات، إنها جريمة بشعة، الآلاف راحوا ضحيتها
من الناحية المقابلة كانت الردود هنا وهناك على ما جاء في قصيدة البرغوثي من مثقفين وإعلاميين ومتابعين وغيرهم، ولكن الاطلاع على بعضها يدحرجنا مرة أخرى في دائرة الطائفية، فمنهم المتفاخر بانتمائه إلى بني أمية (لا نعرف كيف أثبت ذلك) ومنهم الشاتم ومنهم المهاجم للشاعر وهلم جرا. ومثل هذه الردود انفعالات بدورها لا يمكنها ردم الخطأ الفظيع الذي ارتكبه الشاعر.
التعامل مع الحضارة الإسلامية لا يجب أن يكون من زوايا ضيقة بالمرة، فلبني أمية الذين امتد حكمهم من 661 إلى 750 ميلاديا إنجازات هامة خاصة في تركيز نظام الخلافة وتوسيع رقعة العالم الإسلامي، وإرساء أنظمة إدارية علاوة على دعم الأدب والفنون وغيره. وعليهم ما عليهم من مآثم البطش والحروب والصراعات التي لم تخرج منها الحضارة الإسلامية.
انتهى حكم بني أمية ولا تكون العودة إليهم إلا لقراءة تاريخية ما أو حتى أدبية، لكن العودة للشتم واسترجاع الصراعات القديمة بنفس تثويري في قصيدة خطابية، فهو أمر مكروه تماما، ولا أظن أنه سيلقى اهتماما واسعا خاصة من الشباب الذين مزقت أجدادهم وآباءهم الطائفية وهم على أمل تجاوزها.
لا شك في شعرية تميم البرغوثي وموهبته أو ثقافته أو انغماسه في الهم العربي، ولكن الخطأ يجب أن يوقظ فيه روح الشاعر صانع الحياة لا الموت. وخاصة أن الشاعر ابن بيئتين فهو ابن الراحلين الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، الشاعر الإنساني المنفتح، والروائية المصرية رضوى عاشور القارئة المميزة للتاريخ بعين باردة.
ربما كانت لتأثيرات ما يحدث في فلسطين وغزة تحديدا من مجازر يومية يد في انفعال الشاعر أيضا، ربما خاب ظنه من التراخي في دعم الفلسطينيين بشكل أقوى من أشقائهم العرب، ولربما كان هذا سبب القول الشعري الانفعالي، لكن على الشاعر أن يعي أولا وأخيرا أن الطائفية أيا كان مظهرها أو سببها جريمة لا تقل سوءا عن جرائم الإبادة والقتل والتدمير وإثارتها جريمة فظيعة.