أزمة "الوفد" تعكس تكلّس القوى السياسية في مصر

القاهرة - تعاني القوى السياسية في مصر من حالة جمود غير مسبوقة، يرجع جزء منها إلى التضييق الحاصل في المشهد العام منذ سقوط حكم جماعة الإخوان المسلمين قبل حوالي سبع سنوات، والبعض الآخر يعود إلى طبيعة التكلس في الأحزاب نفسها التي أخفقت في تطبيق الديمقراطية داخل جدرانها، ما جعلها من الصعب أن تمارس ضغطا على الحكومة يجبرها على فتح الفضاء العام.
وجسدت واقعة إقالة رئيس حزب الوفد بهاء أبوشقة، لعشرة من أعضاء الهيئة العليا في الحزب، الثلاثاء، حجم المعاناة التي يشهدها أحد أهم وأكبر الأحزاب الليبرالية في مصر. فالرجل لم يتحمل الاختلاف مع خصومه، واستخدم صلاحياته القانونية، وهو ما يفتح الباب أمام المزيد من الانقسام.
واعتبر أبوشقة أن الأمور وصلت لمنتهاها، وبات الحزب أمام خطر السقوط التام بأيدي البعض، شارحا كيف كانت المؤامرة والإعداد والتخطيط لها باستخدام كافة وسائل حرب الجيل الرابع، وأموال مجهولة المصدر.
وقال في مؤتمر صحافي عقده بمقر الحزب، الثلاثاء، “أراد المتآمرون عقد اجتماع ليذهب الحزب إلى الأبد، وشعرت بانزعاج من شباب وشيوخ الوفد وحملوني أمانة بضرورة إنقاذ الوفد وإجراء تطهير سريع، حفاظا عليه كجزء من النظام السياسي في مصر وممثل للمعارضة الوطنية الشريفة”.
وآخر المؤامرات التي تحدث عنها أبوشقة، كانت تقضي بجمع توقيعات لعقد الهيئة العليا يوم 13 فبراير لمعرفة الوضع المالي، في اجتماع رآه مدبرا لسحب الثقة من سكرتير عام الحزب للسيطرة على مفاصله، وإجبار رئيس الحزب على الخروج من المعادلة.
أوضحت واقعة الفصل المفاجئة حجم التشظي الذي يمر به حزب قاد المعارضة خلال فترة حكم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، ثم بدأ التآكل ينخر جدرانه مع كل اقتراب يقوم به تجاه الحكومة.
وضمت قائمة المفصولين رئيس الهيئة البرلمانية لحزب الوفد في مجلس النواب، محمد عبدالعليم داوود، وهو أحد الأعضاء البارزين في معارضة الحكومة في المجلس، الأمر الذي لا يستطيع تحمله سياسيا رئيس حزب جرى تعيينه بقرار من رئيس الجمهورية في مجلس الشيوخ، وهو الغرفة الثانية للبرلمان.
وجاءت الأزمة الجديدة على خلفية تتعلق بأن غالبية المفصولين رفضوا الطريقة التي أدار بها رئيس الحزب عملية المشاركة في انتخابات مجلسي الشيوخ والنواب مؤخرا، حيث عقد صفقات مع حزب “مستقبل وطن” القريب من الحكومة، ورتب أمورها بمفرده تقريبا، وبعيدا عن هيئته العليا.
الوفد لم يعد حزبا معارضا، ومواقفه السياسية تكاد تكون متطابقة مع حسابات الحكومة وظهيرها المعروف بمستقبل وطن
وتمخضت الصفقات عن الدخول في تفاهمات كبيرة مع “مستقبل وطن”، بشأن الأسماء المرشحة للدخول على قوائم الثاني الانتخابية، مضمونة النجاح، وهو ما اعتبره البعض في الحزب مخالفة للخط السياسي، وهيمنة من قبل أبوشقة على مفاتيحه.
وتراجعت أهمية حزب الوفد في الشارع المصري منذ رئاسة أبوشقة له في أبريل 2018، وأجهز الرجل على ما تبقى من أسس الديمقراطية داخله، وفضل الاقتراب من الحكومة، وربما الارتماء في أحضانها، ولم يعد حزبا معارضا، ومواقفه السياسية تكاد تكون متطابقة مع حسابات الحكومة وظهيرها المعروف بمستقبل وطن.
كان تنسيق الوفد مع الحكومة مفهوما عندما واجهت أجهزة الدولة تحديات مصيرية في التصدي لجماعة الإخوان، وقادت حربا ضارية ضد الإرهاب، لكن بعد تقويض الإخوان واستقرار الأوضاع وتوافر الأمن لم يعد هناك مبرر سياسي للتماهي.
يبالغ المحامي بهاء أبوشقة في مقاربته السياسية حيال الحكومة، ويبالغ أيضا في الخصومة مع أعضاء الحزب، بما أضر بسمعة الوفد، وأظهرته التصورات الجديدة كأنه تابع لمستقبل وطن، الذي لا يتجاوز عمره سبع سنوات، بينما مضى على تأسيس الوفد نحو قرن، وقاده ساسة كبار، مثل سعد زغلول ومصطفى النحاس وفؤاد سراج الدين، لعبوا دورا مهما في الحفاظ على كيانه كحزب جامع للأمة المصرية.
يعتقد بعض أعضاء الحزب ممن يؤمنون بتقاليده الراسخة، أنهم في موقف بالغ الحرج، من المرجح أن يقود إلى المزيد من الانهيار، إذا استمرت قيادته الحالية متمسكة بعدم اتخاذ مسافة بعيدة عن الحكومة، وبالتالي يتحول إلى رقم عادي ضمن قائمة الأحزاب المصرية الرسمية التي تخطت المئة حزب.
ويعكس التفسخ الذي يمر به الوفد حالة الضبابية في الحياة السياسية بمصر، ويشير إلى أن الأحزاب نفسها أسهمت في تجريف المشهد العام، وأسهمت عن قصد أو دونه في عدم اكتراث الحكومة بالواقع السياسي الرمادي، وهو ما أنتج وضعا خطيرا من التردي، استسلمت له جميع الأحزاب السياسية.
ويبدو أن حزب الوفد أصبح عقبة رئيسية أمام حزب مستقبل وطن، وطالما بقي الأول متماسكا، ولو في الحد الأدني، لن يتمكن الثاني من شق طريقه في الشارع، فلا تزال تلازمه فكرة حداثة النشأة، والالتصاق بالحكومة.
يشير مراقبون إلى أن أزمة مستقبل وطن مكتومة وكبيرة، لأن الوفد هو الوحيد القادر على ترتيب أوضاعه، ويمثل تخريبه من الداخل طريقا مرضيا لقطع الطريق على إعادته للحياة السياسية، فالمطلوب تشكيل طبقة شبابية لا صلة لها بالماضي.
يحتفظ الوفد ببعض الأسماء التاريخية التي تمثل عودتها حجرا لتحريك المياه الراكدة، ولمنع ظهور وإلقاء هذا الحجر في المياه من المهم أن يواصل الحزب عراكه الداخلي، ليختفي من المشهد أو يتحول لكيان بلا معنى، ويبتعد عن الجذور التي تمنحه قوة سياسية في مواجهة الآخرين.
وإذا جرى التخلص من صداع الوفد، لن تجد الحكومة أزمة كبيرة في إدارة المشهد العام بالطريقة التقليدية التي تريحها، لأن القوى الحزبية التي تمثل رمانة ميزان في الحياة السياسية بحاجة إلى حراك داخلي قبل أن تطالب الحكومة بإصلاحات سياسية تؤدي إلى حراك في المجال العام.