أزمة اللاجئين ومخاطر المعالجة الشعبوية

عندما بدأت حركات شعبية من أمثلة ”مي تو” و”بلاك لايف ماترز”، لم يكن أحد يتخيل أن تصبح ظاهرة عالمية شعبية، أي على الضد من الحركات الشعبوية التي ترصد مواطن الخلل في السلوك البشري وتصبح العرف الجديد للتعامل بين الناس.
ومن هناك ننطلق في التنبيه من الانجرار إلى الشعبوية لأنه بقصد أو من دونه، يذهب الناس الأوعى والأكثر تشبثا بالأخلاقيات الإنسانية إلى فرض إرادة اختيارية صارمة بمرجعيتها لمنع فكرة السماح بالانتهاكات.
الخطابات الشعبوية قادت تونس إلى وضع باتت فيه محور تركيز حقوقي ودبلوماسي وإعلامي بشأن التعامل مع اللاجئين. قد تكون السلطات الرسمية محقة في النأي بنفسها عمّا جرى، وأنها تعاملت مع القضية وفق معادلة تقوم على رفض توطين اللاجئين مهما كانت الظروف، وهذا من حقها.
◙ لتونس وليبيا اليوم حصة مشتركة فيما حدث مع لاجئين أفارقة تمت إساءة معاملتهم في ظروف شديدة القسوة، حتى وإن كانوا هم من ضحاياها
لكن الدفاع عن هذا الحق تزامن مع حملة عدائية عنصرية سكتت عنها السلطات أو جارتها من باب تفهّم مطالب الناس في التخلص من أعباء ظاهرة اللاجئين التي باتت مكلفة على مستوى المعيشة، وحملت معها ظواهر سلبية منها ما يتعلق بظهور جرائم، وخاصة في مدينة صفاقس (جنوب شرق) التي كانت الهدف الأول لتدفقات اللاجئين.
لم تكن السلطات لتقف ضد موجة شعبية تطالب بإخراج الأفارقة من المدينة خاصة بعد مقتل تونسي على يد أحد الأجانب. وهي لا تريد أن تزيد من غضبهم في ظل ظروف اقتصادية صعبة. لكنها لم ترفع صوتها منذ البداية لتقف ضد العنصرية، وخاصة خطاب التعميم الذي سعى لتحميل اللاجئين الأفارقة مسؤولية أخطاء فردية سواء ما تعلق بمقتل مواطن من المدينة على يد لاجئ أو محاولات تحميل الأفارقة أزمة ندرة بعض المواد الغذائية في حين أن لتلك الندرة أسبابا أخرى.
لم تسع السلطات للصدام مع الشعبوية التي حمّلت الأفارقة مسؤولية أزمات مدينة صفاقس. وجرى التعامل بتراخ مع التقارير التي تحدثت عن نقل أفارقة عبر حافلات إلى الصحراء قبالة الحدود مع ليبيا أو إلى الغابات قبالة حدود الجزائر ومطالبتهم بالعودة من حيث جاؤوا.
قد يكون هذا القرار مرتجلا من السلطات المحلية واتخذ في محاولة لامتصاص غضب الشعبوية في المدينة وخارجها، وخاصة خطاب التحريض ضد الأفارقة على مواقع التواصل الاجتماعي. لكنه في النهاية محسوب على الموقف الرسمي التونسي، والاتهامات الحقوقية توجه لتونس، والردود المختلفة تمس من صورتها، وليس صورة مسؤولين محليين يتسابقون لوضع الرِّجل في ركاب الشعبوية.
السلطات الرسمية كانت بين نارين، نار الشعبوية الحارقة وأيّ اقتراب منها ربما سيلهبها أكثر، ونار العنصرية التي إن اشتعلت واتسعت فستجعل تونس في مواجهة مع المنظمات الحقوقية الدولية ومع الإعلام والمحاذير التي قد تلحق به على صورة تونس.
لم يكن الوقت في صالح إستراتيجية الانتظار الذي تعامل به الموقف الرسمي التونسي تجاه اتساع نار الشعبوية. وبسرعة سعت سلطات غرب ليبيا إلى تقديم صور وتقارير عن ظروف صعبة يعيشها لاجئون أفارقة على الحدود مع تونس. الحملة الليبية تضمنت شهادات من لاجئين قالوا إن تونس هي من ألقت بهم على الحدود في ذروة ارتفاع الحرارة ودون زاد من ماء وأغذية.
لتونس وليبيا اليوم حصة مشتركة فيما حدث مع لاجئين أفارقة تمت إساءة معاملتهم في ظروف شديدة القسوة، حتى وإن كانوا هم من ضحاياها. لن تنفع الليبيين المزايدة على تونس لتبرئة صورتهم مما رصدته تقارير دولية مختلفة عن احتجاز ميليشيات ليبية للمئات من الأفارقة في محتشدات حصلت فيها خروقات كثيرة لحقوق الإنسان من اتجار بالبشر واغتصاب وتعذيب.
الاتهام الليبي سرعان ما انتشر لتتلقفه منظمات حقوقية ووسائل إعلام ووكالات مختلفة وحوّلته إلى أمر واقع لتتلوه وبشكل متلاحق بيانات التنديد من منظمات مختلفة كان آخرها بيان الناطق باسم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.
لكن الأمر لم يقف عند البيانات حتى تكتفي تونس بالرد عليها ببيانات التكذيب كالذي صدر في وقت متأخر من مساء الجمعة. وقد تطور الوضع إلى ردود فعل سلبية من مغنين كانوا مبرمجين في حفلات صيفية بتونس وقرروا مقاطعتها كرد فعل على استهداف اللاجئين.
وأعلن مغنيا الراب بيغ فلو وأولي إرجاء حفلة موسيقية لهما كانت مقررة الأربعاء في قرطاج بتونس، بعد ثلاثة أيام على إلغاء مغني الراب ماتر غيمز حفلته في جربة تنديداً بوضع المهاجرين العالقين بين تونس وليبيا.
وكتب مغنيا الراب عبر إنستغرام “لا نرغب في إحياء الحفلة بقرطاج في وقت ندرك فيه الوضع الراهن”.
وكان غيمز أعلن إلغاء حفلته الموسيقية التي كانت مقررة في 11 أغسطس تنديداً بـ”المحنة غير المُحتَمَلة” التي يعيشها المهاجرون.
ودوّن مغني الراب في حسابه على إنستغرام “إنّ أطفالاً ونساءً ورجالاً رُحّلوا من تونس إلى ليبيا يعيشون في ظروف غير إنسانية”.
والخطر من هذه المواقف المحدودة قد يتسع، وهو لن يمثل إحراجا سياسيا للسلطات فقط بل قد يطول تأثيره السياحة، فلا شك أن إلغاء حفلات المغنين قد تبعه إلغاء حجوزات فندقية خاصة أن هذه النوعية من الحفلات يأتيها جمهور من بلدان مختلفة.
والأخطر أن تونس ستصبح في أذهان الكثير من الأجانب، تحت وقع رواج هذه الصورة، كدولة معادية للأفارقة، وهي صورة من الصعب أن تغيرها أو تمحو تأثيراتها على المدى البعيد.
هذه أمور تعجز المليارات عن مواجهتها كما تعلمت قطر ذلك في محاولتها طمر حكايات معاناة العمال الآسيويين مثلا، وبدا ذلك واضحا في الردود التي عقبت المشاركة في مونديال قطر 2022 لكرة القدم، وتصريحات كثيرة من لاعبين ومدربين ومنظمات حقوقية.
◙ السلطات لم تكن لتقف ضد موجة شعبية تطالب بإخراج الأفارقة من المدينة خاصة بعد مقتل تونسي على يد أحد الأجانب. وهي لا تريد أن تزيد من غضبهم في ظل ظروف اقتصادية صعبة
الوصم بالعنصرية لا يمكن تغييره بسهولة، ولا تكفي معه النوايا الحسنة، ولا البيانات التي تهاجم المنظمات الحقوقية وتتهم تقاريرها بالمزاعم. ربما كان الأجدر أن يتم التحرك مسبقا مثل عمل الرئيس قيس سعيد، حيث بادر بزيارة إلى ولاية صفاقس (جنوب شرق) وضبط لقاء مع لاجئين أفارقة والتقط صورا معهم في حركة رمزية لتأكيد أن اللاجئين مرحّب بهم على مستوى رسمي، وأن الدولة تحميهم وتقف في وجه الحملات التي تعرّض لها بعضهم في مناطق مختلفة من البلاد.
ووجّه قيس سعيد في خطابات كثيرة الجهات المعنية بتأمين وجود هؤلاء اللاجئين وحمايتهم ومعاملتهم كضيوف.
وفي محاولة لتبديد ردود الفعل على خطابه الملتبس في 21 فبراير الماضي، والذي تم تأويله وتصنيفه ضمن العنصرية ضد الأفارقة، اتخذ الرئيس التونسي سلسلة من الإجراءات لفائدة الأفارقة الموجودين بالبلاد من بينها تسليم بطاقات إقامة لمدة سنة لفائدة الطلبة من البلدان الأفريقية، والتمديد في صلاحية وصل الإقامة من ثلاثة إلى ستة أشهر، فضلا عن تسهيل عمليات المغادرة الطوعية، وإعفاء المهاجرين في وضع غير نظامي من دفع غرامات التأخير في مغادرة البلاد.
لكن هل سيكفي تحرك الرئيس سعيد، وبيانات وزارة الخارجية، أو تصريحات وزير الداخلية التي قال فيها إن “ما تم نشره من قبل بعض المنظمات الدولية، وخاصة ما جاء في تصريح نائب المتحدث باسم الأمم المتحدة بتاريخ 1 أوت (أغسطس) 2023… يتسم بعدم الدقة ويرتقي إلى درجة المغالطة”.